الإرادة الشعبية والسلطة السياسية
من الذي يعبر عن الإرادة الشعبية في الوقت الراهن، وما هي السلطة السياسية التي من حقها أن تتخذ القرار وتحسم الخلافات حول عديد من الأمور، وتعدل في الحكم بين مختلف الكيانات المتصارعة في الساحة السياسية؟ هذه أسئلة جوهرية ينبغي تحديد الأجوبة القاطعة عليها بكل موضوعية وصراحة، وبدون لف أو دوران، وبغير اصطناع عبارات غامضة خوفاً من الإرهاب المعنوي الذي تمارسه بعض الجماعات، أو الابتزاز السياسي المكشوف الذي يقوم به في الوقت الراهن بعض السياسيين الهواة منهم والمحترفون على السواء.
ونقطة البداية هي ثورة 25 يناير التي قادها الشباب، والتحمت بموجاتها المتدفقة ملايين المصريين من كافة الطبقات الاجتماعية، الذين يمثلون كل طوائف الشعب. وهذه الثورة لم تنجح فقط في إسقاط النظام السياسي الذي كان يقوده الرئيس السابق، ولكنها نجحت في فترة قصيرة من الزمن حقاً في هز قواعد السياسات المنحرفة في الإقصاء والتخوين في مجال السياسة، والنهب والفساد المعمم في مجال الاقتصاد. وقد تمت كل هذه الإنجازات من خلال الحشود الجماهيرية التي كانت تتجمع في ميدان التحرير وفي غيره من الميادين في مختلف مدن البلاد.
وهذه الحشود أقربها مظاهرة الجمعة الشهيرة التي أريد منها توحيد الصف، وانتهت بالانقسام والفرقة، لأن التيارات الإسلامية نقضت وعودها ورفعت شعاراتها الدينية داعية لحكم إسلامي، مما أدى إلى انسحاب عديد من المنظمات السياسية الشبابية احتجاجاً على ما حدث.
وهذه المظاهرات التي يطلق عليها مجازاً "المليونية" إشارة إلى مئات الآلاف من المشاركين، لم تكن ترفع فيها فقط الشعارات ذات الدلالة على المطالب التي يسعى شباب الثوار إلى تحقيقها، ولكنها -وأهم من ذلك- تستخدم كوسيلة ضغط على المجلس الأعلى للقوات المسلحة من جانب وعلى الوزارة التي يرأسها "عصام شرف" القادم من ميدان التحرير من جانب آخر، إما لتسريع اتخاذ بعض القرارات، أو الاعتراض على قرارات أخرى، أو المطالبة بتنفيذ لمطالب محددة.
وتطورت المظاهرات إلى "اعتصامات" متعددة، ويعلن المشاركون فيها أنها لن تفض إلا بعد تحقيق كافة المطالب. وهذه المظاهرات والاعتصامات سواء في القاهرة أو غيرها من المدن تتم باعتبارها تعبيراً صادقاً عن الإرادة الشعبية. والسؤال الجوهري هنا: ما هو صدق هذه المقولة؟
الواقع يقول إن من يجتمعون في التحرير يبدو أنهم مقتنعون بأنهم الممثلون الحقيقيون للإرادة الشعبية، وكأن هذا الميدان الذي أصبح شهيراً في العالم هو مقر الجمعية العمومية للشعب المصري، كما زعم أحد الناشطين السياسيين المعروفين. والواقع أن في هذا الزعم تجاوزاً للحقيقة. فقد ثبت أن ميدان التحرير الذي كان في بداية الثورة معبراً حقاً عن الإرادة الشعبية في مجال إسقاط النظام والضغط على الرئيس السابق حتى تنحى وفوض المجلس الأعلى للقوات المسلحة في إدارة شؤون البلاد، تغير في الوقت الراهن بحكم دخول فئات متعددة لم تشارك في الثورة منذ بدايتها، وتحول للأسف الشديد إلى ساحة للمزايدات السياسية، تقودها جماعات شتى تتخذ أسماء متعددة ولا تكاد تتفق على شيء محدد، بالإضافة إلى مشاركة أشخاص لا هوية لهم، يمارسون بشكل مفضوح الابتزاز السياسي عن طريق رفع شعارات فوضوية تهدف للوقيعة بين الجيش والشعب، من خلال المناداة بإسقاط المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتكوين مجلس رئاسي مدني.
وهكذا يمكن القول إن ميدان التحرير على رغم الحيوية السياسية التي يزخر بها، والتي تتحول أحياناً إلى فوضى عارمة، ليس هو المعبر عن الإرادة الشعبية. لأنه لا يمكن بكل بساطة اختزال الشعب المصري الذي يفوق تعداده الثمانين مليوناً في بضعة آلاف من المتظاهرين يدعون أنهم يتحدثون باسمه، وذلك بغير تفويض واضح أو عملية انتخابية شرعية.
لقد وصلنا إلى نقطة حاسمة اختلطت فيها الثورة بالفوضى، ووصلت الممارسات إلى حافة الخطر، كما حدث من قطع الطرق العامة والدعوة الجاهلة لتعويق الملاحة في قناة السويس، أو تعطيل الإنتاج. وآن لنا أن نتفق جميعاً على أن الإرادة الشعبية لا يجوز أن يعبر عنها إلا مجلس شعب منتخب عبر انتخابات نزيهة، تتشكل على أساسه حكومة أيّاً كان شكلها. فقد تكون حكومة حزب واحد لو فاز هذا الحزب بالأغلبية، أو حكومة ائتلافية تمثل عدة أحزاب. وهذه الحكومة هي التي ستكون ممثلة حقاً للإرادة الشعبية، وفق الأعراف الدستورية والقانونية المعتبرة في كل بلاد العالم.
وإذا كانت هذه هي الإجابة القاطعة على سؤال من يعبر عن الإرادة الشعبية، فلماذا لا يعلق المتظاهرون والمعتصمون مظاهراتهم، ويستعدون بكل أطيافهم السياسية لخوض معركة الانتخابات القادمة بعد شهرين أو ثلاثة، التي ستكون حاسمة في تقرير القوى السياسية التي ستحكم البلاد؟ إن الطاقات المهدورة في ميادين التحرير المختلفة أولى بها أن توظف سياسيّاً، بحيث ينزل أنصار كل تيار سياسي إلى الشارع في عملية سياسية رشيدة، للدعوة إلى برنامجه وجذب الأنصار استعداداً لانتخابات.
ومن هنا تسقط دعوات الدستور أولاً التي يراد منها في الواقع تعويق الخطة المرسومة التي وضعت، حتى يتسنى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة تسليم السلطة للحكم المدني القادم عبر انتخابات نزيهة.
أما السؤال الثاني عمن يعبر عن السلطة السياسية فالإجابة معروفة سلفاً، لأنها تتمثل أساساً في المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أعلن منذ البداية بكل نزاهة وموضوعية أنه يدير شؤون البلاد ولا يحكم، بمعنى أنه يمهد الطريق ديمقراطيّاً حتى تأتي الهيئات السياسية المنتخبة من الشعب لتحكم البلاد وفقاً للأصول الدستورية.
أما الوزارة التي شكلها "عصام شرف" بشرعية ميدان التحرير، فقد وصفت بحق بأنها وزارة لتسيير الأعمال، ليس تقليلاً من شأنها، ولكن بحكم أنها لن تستطيع -بحكم قصر المدة المتاحة أمامها حتى تحدث الانتخابات- أن تتخذ قرارات استراتيجية.
ومجمل القول إنه ينبغي إعطاء الفرصة كاملة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة من جانب والوزارة من جانب آخر، حتى يتم تمهيد الطريق لإجراء الانتخابات الحاسمة، التي تخشى من نتائجها أحزاب سياسية قديمة متهافتة من جانب، وأحزاب سياسية شبابية ناشئة، لم يتح لها الوقت حتى ترسخ قواعدها في الشارع السياسي.
ولنعلنها صريحة قاطعة، إن الإرادة الشعبية سيعبر عنها مجلس الشعب القادم والوزارة التي ستتشكل بناء على منهج الانتخابات، والسلطة السياسية سيمارسها رئيس الجمهورية القادم، بالاشتراك مع الوزارة وفي تعاون وثيق مع مجلس الشعب والشورى.
وبناء على ما سبق وباستقراء اتجاهات الجماهير يمكن القول إن الشعب يريد مزيداً من الهدوء، بدلاً من الصخب الدائر، حتى تنفذ خطة الطريق الدستورية التي اقترحها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي هو بلا أدنى شك موضع ثقة الشعب، لأنه المعبر عن التراث الوطني الزاخر لجيش مصر العظيم.