صدام اليوم أصبح من موتى التاريخ. والبعث دفن منذ أن جاء الرفاق على ظهور الدبابات في جنح الظلام، ولم يسمهم الناس لصوصاً بل ثوريين. ودخلت بلدان نفق الديكتاتورية حتى إشعار آخر. والديكتاتورية شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وهي سهلة الاقتلاع في البداية أقرب إلى الاستحالة بعد ذلك حتى يأذن الله بانجعافها حينما تموت بقانونها الذاتي. وهو ما حصل مع الفاشي فرانكو. وأمثاله كثيرون في غابة العربان. ومنذ عام 1934 كتب "جورج أورويل" كتابه المشهور "المزرعة" يشرح فيه النظام الشمولي وكيف يمسخ الإنسان فيحول العباد إلى قردة وخنازير وعبيد للطاغوت لا يحسنون إلا الرقص في المظاهرات يحيُّون فيها القائد إلى الأبد. ولو قطع لحم صدام المصدوم مثل الباسترما الأرمنية ووزع شرائح على الشعب العراقي لما نالته العدالة بأكثر من نانومتر. وهذا يروي قصة سخف وعجز العدالة الأرضية. وهو مبرر قوي أن يكون هناك يوم بعث يأتي فيه رجال البعث فيسألوا عما قدمت أيديهم. وإلا ما زاد الكون عن مهزلة كبيرة لا تستحق أن يعيشها الإنسان. (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفسٌ شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين). وفي صيف 2004 تسارعت الأيادي إلى صدام المصدوم بالسلاسل والألسنة باللعن. ولكنْ له مؤيدون كما كان للحجاج أصحاب. وما زال يزيد بن معاوية محصناً ضد النقد مع أنه استباح مدينة النبي. وفي نفس أرض صدام ما زال قوم يقدسون يزيداً ويعبدون الشيطان شاهداً على مهزلة العقل البشري كما يقول عالم الاجتماع علي الوردي. وهناك من محامي العرب من تبرع للدفاع عنه ولو كانت مثل حجة إبليس. ومع سقوط صدام برز كثير من أبطال "دون كيشوت" الوهميين وهم أيام صدام كانوا إما في جيبه الصغير أو مع الهتافين أو الساكتين. والمثل يقول إذا سقط الجمل تكاثرت عليه السكاكين بالذبح. والرومان كانوا يرددون الويل للمغلوب. وليس معنى هذا أن صدام يجب الانتقام منه بل أن يحاكم بالعدل وتوفر له كل ضمانات الدفاع هو وعصابة البعث معه، ليس من أجله بل إعلاناً لدخول عصر القانون والخروج من حكم القراصنة البعثيين.
والتحدي اليوم أمام العراقيين أن ينتهزوا فرصة الغطاء الأميركي كما فعل اليابانيون والألمان فينفضوا الديكتاتورية ويدخلوا عصر العلم والعدل والسلام. وهذا اعتراف خطير بأن الأمة لم يكن في مقدورها أن تتخلص من صدام كما هو الحال في أقطار عربية كثيرة بسبب تغوُّل الدولة وشدة بطشها وعيون المخابرات التي تحصي دبيب كل نملة وطنين كل نحلة ولا تأخذها سِنة ولا نوم. ولو لم تأتِ أميركا لحكمَ صدام وعائلته قروناً آخرين. كما فعل هولاكو مدمر بغداد الذي حكمت عائلته قرناً باسم الإمبراطورية الإليخانية.
ونحن في عالم العروبة نمشي على رؤوسنا ونعيد دفع الحياة في ملكيات ماتت منذ أن طار رأس انطوانيت ولويس فوق المقصلة. ومن يمشي على رأسه يفقد رأسه ورجليه معاً. وعالم العرب اليوم سفاري تسرح فيها الضواري. لا يوجد فيها أمان لطير وقطة وابن آدم. وإذا اجتمعوا للتعاون فهو من أجل التبادل الأمني وخلود الحاكم إلى يوم الدين وهو ضد طبيعة الوجود. والعرب مرضى بداء (الغدر) فهو سيد الأحكام ولو بالتعاون مع أميركا والشيطان.
وما زال عصر العرب الأسود في قبضة الانقلابيين إلا ما رحم ربك. ويحتفلون في يوم الغدر ويسمونه عيد الثورة. وفقهاء العصر المملوكي قالوا بشرعية (المتغلب). وإذا قام انقلابي مغامر بانقلاب عسكري في جنح الظلام فنجح صفق الناس له وهتفوا. وإذا فشل أصبح خائناً ملعوناً كما رأينا في انقلاب موريتانيا وحزب البعث. فهذه الثقافة التي تجعل من الخائن بطلا ومن البطل خائناً لا تستحق الاحترام وهي مريضة بمرض السرطان.
جاء في كتاب "الخرافات" للسلامي ليو تولستوي" أنه تشاجر يوماً ديكان على مزبلة وكان أحدهما أقوى من الآخر فتغلب عليه وطرده من على المزبلة. فتجمعت الدجاجات كلها حول ذلك الديك وراحت تمتدحه. وأراد الديك أن تعرف قوته وأمجاده في الساحة المجاورة، فطار إلى قمة مخزن الغلال، وأخذ يصفق بجناحيه ويصيح بصوت عالٍ "انظروا إلي جميعاً. أنا الديك المنتصر. وليس لأي ديك آخر في العالم قوة كقوتي هذه". ولم يكد الديك ينتهي من صياحه المتكرر حتى لفت نظر نسر أبيض هائل كان يحلق في المنطقة يبحث عن طعام لفراخه الجائعين فانقض عليه في لحظة وأمسك به بمخالب لا تفلت فأصبح الديك المغرور عشاء لفراخ النسر تلك الليلة. فهذه هي قصة النسر الأميركي والديك صدام.