حينما يفرد المرء خريطة جغرافية تفصيلية لباكستان، فلا بد وأن تقع عيناه على عشرات المدن التي ينتهي اسمها بكلمة "آباد" التي تعني بالأوردية، وكذا بالفارسية "المكان المأهول بالسكان" أو الحواضر بعبارة أدق، فيما شطره الأول عبارة عن اسم علم لشخصية تاريخية أو سياسية. وهكذا نجد مدناً مثل "فيصل آباد" نسبة إلى العاهل السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز، و"جهان آباد" نسبة إلى الإمبراطور المغولي المسلم "شاه جهان"، و"جناح آباد" نسبة إلى مؤسس باكستان "محمد علي جناح"، إضافة بطبيعة الحال إلى مدينة "إسلام آباد" العاصمة. غير أن "أبوت آباد" (هكذا يكتبها الباكستانيون) سرقت مؤخراً الأضواء من كل هذه "الآبادات"، بل من كل المدن الباكستانية الأخرى، واحتل اسمها صدارة نشرات الأخبار ومانشيتات كبريات صحف الدنيا. ففيها حدث ما انتظره العالم منذ عقد كامل من الزمن، ألا وهو قتل المطلوب الأول للعدالة "أسامة بن لادن" في الثاني من مايو الجاري داخل مجمع سكني حصين في هذه المدينة التي تبعد 50 كيلومتراً إلى الشمال من "إسلام آباد"، و 150 كيلومتراً إلى الشرق من بيشاور، في منطقة خيبر الجبلية، داخل ولاية "باشتونخوا"، ويسكنها طبقا لآخر إحصائية نحو 125 ألف نسمة. وكغيرها من "الآبادات" الأخريات، فإن لاسمها الغريب قصة، إذ أختير الشطر الأول منه تيمنا باسم الرجل الذي أسسها في 1853، وهو الميجور "جيمس أبوت" الضابط في قوات الهند البريطانية، والذي يـُقال إنه عشق هذا المكان من الوهلة الأولى، بدليل وجود قصيدة من تأليفه تشع أبياتها هياماً بالمدينة وجمالها وطيب هواها، وهي أمور دفعت البعض إلى تسميتها بـ "كلورادو مصغرة" - مع الفوارق طبعاً - نظراً لما يحيط بها من مرتفعات خضراء في الربيع، وبيضاء مكسوة بالجليد في الشتاء، ناهيك عما يوجد بها من منتجعات لقضاء الإجازات. في قصيدة "جيمس أبوت" المذكورة، والتي يبدو أنه كتبها يوم مغادرته "أبوت آباد" إلى الأبد، نقرأ: أتذكر اليوم الذي جئت فيه إلى هنا للمرة الأولى. شممت وقتها رائحة "أبوت آباد" الزكية. الأشجار والأرض كانت مغطاة بالجليد فمنحتنا منظراً آسراً. بالنسبة لي كان المكان حلماً من الأحلام. من بعيد كانت الجداول تجري. ونسائم الهواء تهب كما لو كانت ترحب بنا. وأشجار الصنوبر تتمايل محدثة خشخشة. وطيور القوّال تصدح بأغنياتها الرخيمة المبهجة. لقد عشقت المكان من أول نظرة. كنت سعيداً بالمجيء إلى هنا. مضت علي ثمان سنوات كلمح البصر. ربما نغادرك في ظهيرة يوم مشمس. آه يا "أبوت آباد" علينا أن نغادرك الآن. سوف أنحني إجلالًا لطبيعتك الخلابة. ربما أصوات رياحك لن تبلغ مسامعي بعد اليوم. هديتي لك بضع دمعات حزينة. أودعك بقلب مثقل. ذكرياتك سوف لن تنمحي من مخيلتي. وبطبيعة الحال، لم يتخيل "أبوت" يوم أن كتب هذه القصيدة أن يتحول المكان سريعاً إلى مصيف مشهور، ومقر لعدد من معاهد باكستان التربوية الراقية، وأحد أشهر أكاديمياتها العسكرية، فضلًا عن احتضانها لقوات "الغوركا" النخبوية، وقوات سلاح الحدود المدرعة. وبالمثل لم يكن الرجل يتوقع أن تنال معشوقته نصيبها من الزلزال الذي ضرب كشمير في 2005 ، فيزول الكثير من مبانيها الأثرية القديمة، لكن دون إصابات كبيرة في الأرواح. لكن الأهم أنه لم يدر بمخيلة "أبوت" المؤسس أن مدينته ستصبح مكاناً يحتضن أشهر الهاربين من وجه العدالة، وهو الأمر الذي لئن فاجأ الكثيرين، فإنه لم يكن بمستغرب عند آخرين كثر ممن تابعوا الشأن الباكستاني، منذ أن تحولت هذه البلاد من جبهة قتال للمجاهدين الأفغان ضد الغزاة السوفييت وحلفائهم في كابول إلى جبهة قتال ضد الإرهاب العالمي بقيادة واشنطن. وتفصيلاً للشق الأخير نقول: لقد كان من الغباء ابتداء الافتراض بأن بن لادن يختبئ في أماكن معرضة للقصف الجوي، أو التفتيش الفجائي، أو المسح العسكري، مثل كهوف وزيرستان والمناطق الحدودية المحاذية لأفغانستان والأحياء الكئيبة المظلمة في كراتشي من تلك التي يسكنها الهاربون من وجه العدالة من القتلة والمجرمين، والجزء الجنوبي من البنجاب الذي تحول اليوم إلى معقل للبنجابيين" الطالبانيين"، وشهد في 2002 خطف ومقتل الصحفي الأميركي "دانيال بيرل". وبكلام آخر كان العقل والمنطق يقولان بأن الرجل يختفي إما في أماكن مكتظة بالبشر، من تلك التي يصعب فيها تتبع ومراقبة تحركات أي شخص، ويسهل فقدان أثره، وإما داخل منشآت حصينة محمية من قبل الاستخبارات الباكستانية، لا يحتاج المرء إلى ذكاء وعبقرية للاستدلال على دورها المزدوج أثناء، وبعد الحرب الأميركية على أفغانستان. لقد ردد قادة باكستان مراراً وتكراراً في السنوات الأخيرة القول بأن بن لادن غير متواجد فوق أراضيهم، بل ذهب الرئيس السابق "برويز مشرف" خطوة أبعد من ذلك حينما عبر في مقابلة صحفية قـــُبيل خروجه من السلطة عن اعتقاده بأن الرجل قد قــُتل، وبالتالي ليس هناك داع لاتهام باكستان من وقت إلى آخر بإيوائه! غير أن ما حدث مؤخرا في "أبوت آباد" أكــّد العكس تماماً. بل أكد جملة من الأمور الأخرى التي هي الآن محل خلاف ما بين إسلام آباد وواشنطن وسط انعقاد الحواجب غضباً وارتفاعها دهشة. والحال أن مقتل بن لادن في باكستان فاجأ فقط غير المتابعين للشأن الباكستاني، أما الآخرون فقد وجدوا فيه استكمالاً لسلسلة مشابهة من الأحداث التي قادها الأمريكان بالتعاون مع الباكستانيين، أو من دون تعاونهم، ابتداء مما حدث في 2002 من اعتقال "عمر شيخ" في لاهور (وهو قاتل دانيال بيرل ومختطف طائرة الركاب الهندية إلى كابول في 1999) ، و"أبو زبيدة" في "فيصل آباد" و"رمزي بن الشيبة" بالقرب من كراتشي بـــُعيد مقابلة متلفزة أجراها مع مراسل قناة الجزيرة القطرية "يسري فودة"، وانتهاء بقتل القياديين في تنظيم القاعدة "أبو الليث الليبي" و"أبو اليزيد المصري" بقصفين جويين في 2008 و2010 على التوالي فوق وزيرستان، ومرورا باعتقال "رمزي يوسف"، المتهم بمحاولة تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في 1993، وذلك أثناء توجهه إلى بيشاور في 1995، واعتقال خاله "خالد شيخ محمد" (العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر) في 2003 في روالبندي. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر في الشأن الآسيوي من البحرين الإيميل:elmadani@batelco.com.bh