القيم الاجتماعية والأمن الثقافي
على الرغم من تعدد وتنوع تعريف القيم الاجتماعية، فإنها تشير في معناها العام إلى جملة الأفكار، والتصورات والمفاهيم التي تحكم سلوك الأفراد، وتعبر عن تفضيلهم، أو تقديرهم للأشخاص، أو للأشياء، أو للموضوعات، وكذا المعايير المثالية التي تشكل مرجعية هؤلاء الأفراد، عند تفضيلهم، أو في حكمهم على، أو اختيارهم لشكل معين من أشكال السلوك أو الفعل، خلال مسيرة حياتهم.
لكن ما يعنينا في هذه القضية هو كون القيم الاجتماعية ركيزة أساسية من ركائز الأمن الثقافي. ويأتي تأكيدنا على هذه الحقيقة من منطلق أن هذه القيم تجسد النسيج الاجتماعي الذي يحافظ على تماسك المجتمع، ويعمل على استقراره واستمراره. كما أنها تحتوي على المعايير والمثل الأخلاقية والجمالية والثقافية التي يتفق عليها أبناء المجتمع، وتوجه سلوكهم في مختلف جوانب الحياة، وفي مختلف مجالات تفاعلاتهم الدائمة والمؤقتة.
وتتسع دائرة هذه القيم، أو تضيق، حسب نظرتنا إليها. حيث يمكن الحديث عن القيم الفردية، التي تعكس رغبات الفرد وتطلعاته الذاتية. كما يمكن الحديث عن القيم التي تتصل اتصالًا مباشراً بجانب معين من جوانب البناء الاجتماعي، أو تتصل بفئة اجتماعية معينة في المجتمع، مثل قيم التعليم وقيم العمل، أو قيم المرأة وقيم الشباب. أخيراً يمكن الحديث عن القيم المجتمعية التي تعبر عن البناء الأخلاقي والفكري لكل أبناء المجتمع، ذلك البناء الذي يوجه سلوكهم، ويعكس رغباتهم وطموحاتهم في مجالات التفاعل المختلفة.
لكن كيف تساهم منظومة القيم في تحقيق الأمن الثقافي، وما دورها الأساسي في هذا الصدد؟
يمكن القول بأن منظومة القيم - مهما اتسعت دوائرها أو ضاقت - هي التي تلم شمل سلوك الأفراد، وتشكل ضميرهم الجمعي، وتحدد لهم ما هو مرغوب فيه، وما هو مرغوب عنه، أو ما يجب عليهم فعله، وما يجب عليهم تركه. كما تمارس القيم دوراً مهماً في عملية الضبط الاجتماعي لسلوك الأفراد داخل المجتمع، الأمر الذي يحافظ على استقرار المجتمع، ويضمن تقدمه. والأهم من كل ذلك أن منظومة القيم تعمل على خلق هوية مشتركة يفخر أبناء المجتمع بالانتماء إليها. ولا شك أن هذه الهوية المشتركة هي الحصن الحصين لتحقيق الأمن الثقافي.
وتتسم منظومة القيم بالاستمرارية والثبات، لكنها تخضع، في الوقت نفسه، للتغير. كما أنها ذات طابع نسبي. فما قد يكون غير مقبول في الماضي قد يصبح مقبولاً في الحاضر، أو في المستقبل. خذ على سبيل المثال نظرة المجتمع إلى تعليم أو عمل المرأة في الماضي والحاضر.
بناء على ذلك فإن منظومة القيم تتشكل عبر مسيرة التطور التاريخي للمجتمع في ماضيه، وفي حاضره. لذا فإنها تتصل اتصالاً مباشراً بالماضي والحاضر. فهي تجسد مسيرة الماضي، لكنها تحمل روح الحاضر، كما تعكس تطلعات المستقبل. وهي بذلك تعبر عن تراث الآباء والأجداد، كما تعبر عن سعي الأجيال الحالية نحو الاستفادة من المخزون القيمي الكامن في تراث هؤلاء الأجداد، وحرصهم على تطوير منظومة قيمية لا تتعارض مع الماضي، لكنها تستجيب لمقتضيات الحاضر وتطلعات المستقبل.
وتمارس المؤسسات الاجتماعية والثقافية المتنوعة دوراً أساسياً في تشكيل منظومة القيم في المجتمع. ويأتي على رأس هذه المؤسسات: الأسرة، ومؤسسات التعليم، والإعلام، والمؤسسات الدينية. وهنا نؤكد على أن سلامة وصحة منظومة القيم التي يكتسبها الفرد، مرتبط بسلامة وصحة هذه المؤسسات. وقد ذكرنا في مقال سابق بعض المشكلات التي أدت إلى تراجع دور هذه المؤسسات في دعم وتعزيز منظومة القيم الايجابية في المجتمع .
فلا شك أن ظروف التغير السريع، الذي أصبح سمة من سمات الواقع الحالي، على المستويين المحلي والعالمي، فضلاً عن الانفتاح الثقافي والمعرفي بين دول العالم، قد أفضت إلى تغير منظومة القيم في العديد من المجتمعات، وانتشار بعض القيم الواردة من خارج المجتمع، بفعل ثورة المعلومات والشبكة العنكبوتية، التي تتعارض مع منظومة القيم التي تميز الثقافة الوطنية للمجتمع.
ترتب على ذلك أشكال عديدة من الاختلال، أو التشوه، الذي طرأ على منظومة القيم. كما أدى إلى تراجع بعض القيم الإيجابية، مثل قيم الاحترام، والولاء، والانتماء، وقيم المعرفة والإبداع، وتقدير الوقت والعمل المنتج، والتكافل والتعاون، والمشاركة. وسيادة بعض القيم السلبية، مثل قيم الإهمال، واللامبالاة، والسلبية، وعدم تقدير قيمة الوقت.
ولا شك أن الخلل الذي يصيب منظومة القيم في المجتمع يؤثر سلباً على مسيرة المجتمع ويحول دون تقدمه، ويمنع نهضته في المستقبل. فالمجتمع الذي يسير بلا قيم أشبه بإنسان فقد البصر والبصيرة، ويسير متخبطاً، على غير هدى.
من هذا المنطلق تقتضي الحاجة إلى ضرورة إعادة الاعتبار للمؤسسات الاجتماعية والثقافية، المعنية بغرس القيم، ومحاولة تذليل ما قد يؤثر سلباً على دورها في تشكيل منظومة القيم الإيجابية التي تفي بمتطلبات الحاضر وتستجيب لتطلعات المستقبل. كما تقتضي الحاجة ضرورة السعي الدؤوب، من جانب المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل دورها في استنهاض القيم الايجابية الداعمة للمستقبل، والعمل على غرسها لدى مختلف الفئات الاجتماعية بشكل عام، ولدى الأطفال والناشئة، بشكل خاص . فهؤلاء الأطفال والناشئة هم نصف الحاضر وكل المستقبل. وهم الثروة التي يجب أن نحسن استثمارها من أجل غد أفضل لوطننا الغالي. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ هذا هو موضوع مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
د. شما بنت محمد بن خالد آل نهيان