جيش مصر... الطولوني والإخشيدي
شهدت مصر في العصرين الطولوني والإخشيدي تطورات سياسية وحضارية مهمة، على رأسها الانتقال من مرحلة التبعية للدولة العباسية إلى مرحلة الاستقلال، وقد نتجت عن هذا الانتقال السياسي تحولات شملت كافة مظاهر الحياة تقريباً، وفي مقدمتها مجال التنظيم العسكري، حيث أصبح لمصر جيشها وقيادتها العسكرية المستقلين لأول مرة منذ فترة طويلة قبل ذلك الوقت.
وفي كتاب "الجيش في مصر في العصرين الطولوني والإخشيدي"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، تقول مؤلفته الدكتورة فاتن محمد البنداري إن جيش مصر خلال ذينك العصرين كان قوة يحسب لها حسابها من جانب الخلافة العباسية وغيرها من القوى الأخرى في العالم الإسلامي وخارجه، بل كان أقوى الجيوش الإسلامية في حينه. ولبيان ذلك، تتناول المؤلفة، وبتفصيل موسع، البناء البشري لهذا الجيش، وتنظيماته العسكرية، وفنون التعبئة والقتال كما كان يعتمد عليها، وأخيراً أسلحته وإمداداته.
لقد أتيح لأحمد بن طولون أن يستقل بمصر عن الخلافة العباسية التي انشغلت بإخماد الفتن والثورات وضعُف نفوذ خلفائها. ومن هنا تقول المؤلفة إن شخصية بن طولون كان لها أثر كبير في قيادته الحكيمة للجيش المصري، لاسيما بالنظر إلى نشأته العسكرية والدينية في طرسوس. لكن إنشاء أول جيش إسلامي مصري مستقل عن الخلافة العباسية لم يكن مهمة سهلة على الإطلاق. فلضمان التفوق، ولكبح جماح مطامع الروم بصفة خاصة، كان لابد لابن طولون من إعداد وتعبئة الجيش على نحو جديد تماماً. وفي هذا الخصوص يقول بن طولون نفسه: "واحتملت الكلف العظام والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة واستدعاء كل موصوف بغنى... ما قد أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة والعساكر المتضاعفة".
وكما توضح المؤلفة فقد ضم الجيش المصري في هذه الحقبة عناصر تركية ومغربية وسودانية ورومية وعربية ومصرية، لكن أكثرها وزناً كانوا هم الترك الذين منهم وحدهم حوالي أربعة وعشرين ألف جندي. هذا إضافة إلى ما تذكره مصادر تاريخية من أن ابن طولون استخدم بعضاً من أهله الأتراك وولاهم المناصب القيادية. وكانت للمصريين أيضاً أدوار قيادية لاسيما في المرحلة الأخيرة من عهد الدولة الطولونية ومن بعدها الدولة الإخشيدية.
وفي مسألة التنظيمات العسكرية خلال الدولتين، تركز المؤلفة على القيادة والتجنيد وديوان الجند. فقد اتبع الطولونيون ومن بعدهم الإخشيديون نظماً خاصة في التولية على القيادة وفي القيام بمهامها. فقد تطور لقب "أمير الجهاد" ليصبح في ذلك العصر "قائد الجيش" أو "كبير القواد" أو "مدبر الدولة" أو "والي الحرب". وكان اختيار القادة يتم على أساس التمتع بصفات وخصائل مثل الفروسية والخبرة والتحلي بخصائص الزعامة والقيادة. أما عن الجند والتجنيد، فتستنتج المؤلفة من المصادر التاريخية أن بن طولون قدم إلى مصر وبصحبته جنود على درجة عالية من التدريب والولاء، فاستخدمهم للانتصار على معارضيه وكانوا النواة الأولى للجيش الجديد. وتتويجاً لتلك البداية القوية، قام بن طولون بتجنيد أعداد هائلة من السودان، ثم توالت الأعداد الغفيرة من كافة العناصر تلتحق بالجيش الطولوني.
وتقول المؤلفة إن الطولونيين والإخشيديين اعتنوا عناية عظيمة بأمر الاستطلاعات العسكرية وأولوها اهتمامهم، كما كانت التعبئة العسكرية وإعداد الجنود للقتال على درجة عالية في العهدين، حيث تمت تعبئة الجيش على قسمين: الفرسان والرجالة، وكان لكل منهما دوره في القتال. كما اعتنوا بالعروض العسكرية، لإظهار قوة الجيش ومهابته وفرض الرهبة منه داخل مصر وخارجها.
واعتنى الأمراء الطولونيون والإخشيديون بالأسلحة والمعدات المستخدمة في حينه، مثل السيف والقوس والسهم والرمح والزراقة والمنجنيق والدبابة والكبش والسلالم والحسك، إضافة إلى خزائن السلاح والملابس وثكنات الجند والتموين والإمدادات الطبية والمالية والإمداد بالخيول والدواب والإمدادات المعنوية (الوعاظ).
وإذ قامت الدولة الإخشيدية في مصر عام 323 هـ، فقد كانت امتداداً لسياسات الدولة الطولونية في إدارة الجيش، وقد قامت على التحكم فيه والعناية بمختلف عناصره، وتدريبها تدريباً جيداً ومنحها الأرزاق السنية والمنح السخية.
محمد ولد المنى
الكتاب: الجيش في مصر في العصرين الطولوني والإخشيدي
المؤلفة: د. فاتن محمد البنداري
الناشر: دار العالم العربي
تاريخ النشر: 2010