عندما زرت كوريا الشمالية منذ عدة سنوات، أسعدني الحظ بمرافق لطيف نوعاً سميته السيد"تشاي". قادني الرجل بمثابرة ودأب عبر أرجاء تلك الدولة المدمرة والجائعة، وراح يشرح لي آراءه فيطنب في الشرح، وبالذات عندما يتعلق الأمر بالتماثيل الضخمة لزعماء تلك الدولة التي ينتشر بها نمط من عبادة الشخصية يعتبر الأكثر هيستيرية في العالم بأسره. وذات يوم، ونحن نتناول عشاءً فقيراً للغاية، شرح لي الرجل سبباً آخر يدفعه للاعتقاد بأن شبه الجزيرة الكورية سوف تتوحد حتماً ذات يوم تحت قيادة الزعيم "كيم يونج إيل"، وهو أن الكوريين الجنوبيين قد أصبحوا شعباً خليطاً، بعد أن أقبلوا على التزاوج مع الأجانب، وفقدوا بالتالي نقاء عنصرهم، ولم يحافظوا عليه مثل الكوريين الشماليين. تعجبت حينئذ من اللهجة الواثقة التي يتحدث بها "تشاي" كما لو كان يفترض أنني سآخذ كلامه على أنه أمر مسلم به ولا يحتاج لنقاش. لكن تعجبي لم يستمر ولم يطل إذ تذكرت تلك الأشكال الغريبة من التوتاليتارية المعروضة في هذا البلد، والمجسدة في النصب التذكارية الضخمة والعروض العسكرية المهيبة التي تبدو كما لو كانت تدمج في سبيكة واحدة صلبة، بين الستالينية الكلاسيكية، وبين نسخة شائهة من الأخلاق الكونفوشيوسية البطريركية. تذكرت ما كتبه ماركس في مؤلفه الشهير "الثامن عشر من بريمير لويس بونابرت"، حيث يقول إن أي أحد يتعلم لغة أجنبية يحاول في البداية أن يبدأ دائماً بترجمة تلك اللغة للغته الأم حتى يستطيع فهمها، وأدركت أن نفس الشيء كان ينطبق عليّ عندما كنت أحاول فهم نمط الستالينية المطبق في كوريا الشمالية، حيث كنت أقارنه تلقائيا بنمط الستالينية الذي كان سائداً في الاتحاد السوفييتي السابق ودول أووربا الشرقية. ولم اتنبه إلى أن ما كنت أقوم به ليس هو الشيء الصحيح، إذ كنت أرى الوضع على العكس تماماً مما هو في الواقع، إلا عندما قرأت كتاب "بي. آر. مايرز" الرائع: "الجنس الأنظف: كيف يرى الكوريون الشماليون أنفسهم؟". لقد أدركت من قراءتي هذا الكتاب أن فكرة الشيوعية غائبة تماماً في كوريا الشمالية، وأن الدستور الأخير الذي تم تعديله في أبريل الماضي قد حذف الكلمة تماماً من بين بنوده. أما المشابهات بين النظام وبين الكونفوشيوسية التي يحاول النظام ترويجها فهي متعمدة، ويهدف النظام من ورائها لجذب انتباه الخارج. في كتابه المذكور يطلب منا "مايرز" أن ننظر إلى نظام كيم يونج إيل بمعزل عن النظريتين (الشيوعية والكونفوشيوسية) والنظر إليه على أنه ظاهرة يمينية متطرفة، تقوم على تعبئة توتاليتارية عسكرية في المقام الأول، وأنه لذلك السبب قادر على الاستمرار في الحياة فقط من خلال السخرة وعبر تلقين نمط عقائدي متطرف وكاره للأجانب. وما يمكن استخلاصه من ذلك الكتاب الرائع أن النظام يقصد تماماً ما يقوله في دعايته، وأنه من العبث ومن الخطورة أيضاً، الاستمرار في المفاوضات معه حول نزع سلاحه، والسلام معه. فالنظام يغرس في نفوس رعاياه أفكاراً متطرفة عن النقاء العنصري لدرجة أن أي امرأة كورية شمالية تعود من الصين وقد حملت في بطنها جنيناً من خلال علاقة مع صيني، تجبر على إجهاض نفسها، رغم أن الصين هي الحليف الوثيق الذي يعتمد عليه النظام في البقاء! كما لا تكف بيونج يانج عن تصوير اليابانيين كبرابرة، وتصوير الأميركيين على أنهم وحوش معقوفة الأنوف، بل إن صناديق المعونة التي ترسلها الولايات المتحدة لتعويض النقص الهائل في الغذاء الذي يعاني منه هذا الشعب، لا تقابل بأي نوع من الاعتراف بالجميل، وإنما يتم تصوير الكتابات المدونة عليها للشعب الكوري الذي لا يعرف اللغة الإنجليزية على أنها تحمل عبارات الإعجاب بالزعيم المحبوب، من قبل الأميركيين المذعورين. والمهتمون منا بالشأن الكوري يسألون أنفسهم دوماً هذا السؤال المحير: هل حقاً يحب هذا الشعب زعيمه "المحبوب" كما تقول الدعاية الرسمية؟ لكننا ننسى أحياناً أن شعب هذه الدولة غير مسموح له أساساً بالمقارنة بين حياته وحياة الشعوب الأخرى كي لا يعرف حقيقة وضعه! غير مسموح للكوريين الشماليين بذلك، وإنما تمكن قائد هذا النظام من جعل شعبه يحبه فعلاً من خلال الغطرسة والهيستيريا القومية اللتين تعتبران عنصرين مهمين يعتمد عليهما في البقاء وفي غرس الإعجاب بنظامه. وهاكم الحقيقتان الأكثر قسوة عن كوريا الشمالية: الأولى أن كوريا الشمالية عندما يتم النظر إليها من خلال الصور التي تلتقطها الأقمار الاصطناعية تظهر في صورة منطقة شديدة العتمة لا تظهر خلالها سوى بعض نقاط الضوء الشحيح حتى في العاصمة بيونج يانج ذاتها. والحقيقة الثانية أن الطفل الكوري الشمالي عندما يولد فإن طوله يكون أقصر من طول نظيره الكوري الجنوبي بمقدار يتراوح بين 1.6 و5 بوصة. ولنا أن نتخيل كم سُينهب من حقوق هذا الطفل، والمدة الزمنية التي يستغرقها ذلك النهب من قبل الأسرة الحاكمة التي تستعبد البلد والشعب على حد سواء. هذه الأسئلة وغيرها تثبت وجهة نظر "مايرز"، وهي أن النظام الكوري الشمالي، وعلى العكس من كافة الديكتاتوريات التي سبقته، نجح في إنتاج جنس جديد من البشر: جنس جائع يعيش في الظلام، ويحيا في جهل مطبق، وخوف دائم، ويتعرض لعمليات غسيل مخ ممنهجة تدفعه إلى الشك في الآخرين وكراهيتهم. كريستوفر هيتشينز زميل بمعهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد -كاليفورنيا ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"