في المغرب العربي...لماذا يتنصّرون؟
حكمت هذا الأسبوع إحدى المحاكم الجزائرية في منطقة القبائل على أربعة جزائريين اعتنقوا المسيحية بالسجن مع وقف التنفيذ بتهمة فتح أماكن للعبادة غير مرخصة. وكانت الحكومة المغربية قد طردت قبل أشهر مجموعة تضم 27 مبشراً يمارسون أنشطة تنصيرية في قرى نائية فقيرة تحت غطاء العمل الخيري الإنساني.
تحول موضوع التنصير في بلدان المغرب العربي الثلاثة المركزية (المغرب والجزائر وتونس) إلى واجهة الاهتمام الإعلامي في السنوات الأخيرة. ظهرت تقارير تلفزيونية غربية تحدث فيها المتنصرون الجدد الذين شكا بعضهم من المضايقات مطالباً بالمساواة مع المسلمين وإلغاء المادة الدستورية التي تنص على أن الإسلام دين للدولة، في حين تضاربت الإحصاءات التقديرية لعددهم التي ذهب بعضها إلى أنه وصل لعدة آلاف يتزايدون بوتيرة متسارعة.
ومن الجلي أن النشاط التنصيري يتركز في القرى والمناطق الأمازيغية والقبائلية (البربرية) التي استأثرت منذ بدايات الحضور الاستعماري بالممارسات التبشيرية الكاثوليكية، التي لم تفض أوانها إلى نتائج ملموسة.
بيد أن الأمور تغيرت راهناً بإقبال مئات الشباب على اعتناق الديانة المسيحية، غالباً عن طريق الكنيسة المنهجية البروتستانتية حديثة الحضور في منطقة شمال أفريقيا.
وتفيد دراسة شاملة نشرتها أسبوعية "جون أفريك" الصادرة في باريس إن مسيحيي المغرب العربي الجدد يتشكلون من ثلاثة مكونات كبرى: الطلبة الجامعيون الذين يرتبطون بشبكات تبشيرية خارجية عن طريق وسائل الاتصال الإلكترونية والإعلامية الجديدة، بعض نشطاء المجتمع المدني والمنظمات الأهلية الذين ترتبط مصالحهم مع هيئات دولية مماثلة ذات صلة بالنشاط التبشيري، وفلول واسعة من طالبي الهجرة إلى أوروبا الذين يشكلون هدفاً سهلًا للمقتنصين.
وقد بينت المجلة أن الكثير من المتنصرين الجدد يمارسون حياتهم بطريقة اعتيادية دون إعلان اختياراتهم الدينية خشية ردود الفعل الناقمة، ويتخذون من النوادي الشبابية السرية بديلًا عملياً عن الكنائس يمارسون فيها طقوسهم الدينية.
وإذا كانت حكومات المغرب العربي قد اعتادت في السنوات الماضية التقليل من حجم هذه الظاهرة، إلا أنها بادرت في الآونة الأخيرة إلى السعي لاحتوائها وأقرت بخطورتها على الأمن الروحي لمجتمعاتها نظراً لتضافر عاملين مقترنين باديين للعيان هما:
أولاً: التباس العمل الخيري الإنساني بالنشاط التبشيري، مما يعني فرض المعتقدات بالإغراء والترغيب، واستغلال الحاجة والعوز وضحالة التكوين الثقافي والتعليمي في حمل الناس على تغيير دينهم.
ثانيا: العمل التبشيري السري خارج الضوابط القانونية، على الرغم من حالة الانفتاح الواسعة السائدة في بلدان المغرب العربي التي تشكل بحكم جوارها الجغرافي وتداخلها البشري والثقافي امتدادا طبيعياً لأوروبا.
والمفارقة الجلية هنا أنه في الوقت الذي تتراجع باطراد الممارسة الدينية في أوروبا وتنهار المؤسسة الكنسية فيها، ويتزايد اختراق الديانات الأخرى للقارة القديمة (وفي مقدمتها الإسلام)، يشتد النشاط التبشيري في المغرب العربي وتنتج عنه نتائج ملموسة.
إلا أن عامل الإغراء والاستغلال لا يكفي على أهميته لتفسير هذه الظاهرة الجديدة.فبالرجوع لشهادات عشرات الشباب الذين انتقلوا للمسيحية نلمس عوامل ثلاثة أخرى، تستدعي وقفة انتباه:
أولها: تراجع الثقافة الدينية وضحالتها. فأغلب المتنصرين لم يتلقوا تكويناً إسلامياً قوياً في سنوات التكوين المدرسي الأساسية، وأكثرهم درس إما في المؤسسات التابعة للهيئات التبشيرية (كما هو الشأن في بعض القرى القبائلية والأمازيغية) أو في المدارس الفرنسية التي تقدم تعليماً لائكيا لا يواكبه جهد تعريفي بالإسلام معتقداً وقيماً. وبالنظر إلى انتقال المجتمعات المغربية إلى نموذج الأسرة النووية المنغلقة، فإن وسائط التربية الجماعية الناقلة للإرث الثقافي المشترك قد ضعفت، ولم يعد بمقدورها سد ثغرات التكوين المدرسي.
ثانيها: قصور الإعلام الإسلامي السيار(على كثافته وانتشاره) في تقديم البديل المغري القادر على إشباع الحاجيات الروحية والثقافية للشاب الذي نال تكويناً أكاديمياً رصيناً وفق المعايير الغربية الحديثة. فالقائمون على البرامج الدينية في القنوات التلفزيونية ونجوم الفضائيات من الدعاة ليست لهم في غالب الأحيان ثقافة معاصرة، ولذا هم عاجزون صراحة عن فهم تطلعات وميول وهواجس الشباب المتعلم، كما أنهم غير قادرين على صياغة المادة الإسلامية الملائمة لهم. ولا شك أن القصور أشد في المجال السُني الذي انهارت فيه منذ قرون الدراسات الفلسفية والكلامية، في الوقت الذي لا زالت مكينة في العالم الشيعي (ومن هنا انتشار التشيع المتزايد في منطقة المغرب العربي للأسباب ذاتها).
فما غاب عن الدعاة والفقهاء هو إدراك ضرورة تجديد شرائط التدين وأنساقه الخطابية والتعبيرية للوصول للشباب المثقف الغارق في نسيج المجتمعات الفردية الاستهلاكية الحالية، بحيث لا يفرض على الاختيار ما بين هويته الدينية ونمط حياته وأسلوب عيشه. فالذي يفسر تسارع انتشار المسيحية المنهجية (على عكس الكاثوليكية والبروتستانتية التقليدية) هو مظهرها التحديثي وبساطة شعائرها الطقوسية وتلك مميزات أجلى في الإسلام عادة، لولا تنطع المتشددين وجمود الفقهاء.
ثالثها: ظاهرة "الترحال الروحي"، التي درسها عالم الاجتماع الفرنسي "فردريك لنوار"، ويعني بها انحسار قنوات توريث الدين وعجزها المتزايد عن التحكم في الوعي الديني الفردي، مما يفسر الميل إلى الجمع الانتقائي بين روافد روحية متباينة. وإذا كانت الظاهرة بارزة بقوة في المجتمعات الغربية، فإن للنخب المتغربة نصيب منها. فالكثير من الشباب المتنصر لا يتبنى المسيحية التقليدية معتقداً، وإنما يكيفها مع بعض عناصر موروثه الديني على غرار إقبال العديد من المسيحيين على الطرق الصوفية الإسلامية باحثين فيها عن روحانية مفقودة مع احتفاظهم بديانتهم الأصلية.
في عشرينيات القرن الماضي انتقل الجامعي المثقف "محمد عبد الجليل" سليل العائلة الفاسية العريقة إلى المسيحية، وتسمى بجان، فكان تنصره زلزالاً كبيراً في المغرب المحتل أوانها. بيد أن حالة جان – محمد عبد الجليل ظلت فريدة معزولة.
لا خوف على المغرب العربي من التحول إلى المسيحية، لكن ظاهرة تنصر بعض فئات الشباب تستدعي الانتباه والمعالجة.