دخل صدام حسين أحد قصوره المُنيفة هذه المرة، ولكن على هيئة مختلفة؛ فلم يكن بيده الرشاش الذهبي، ولا بين أصابعه السيجار الـ"هافاني" الفاخر, ولم يكن يلبس البدلة الفرنسية, ولا "الكرفاتة" النفيسة. دخل القصر مُتهماً وليس رئيساً, ضعيفاً وليس قوياً، زائغ العينين, مبعثر الشعر, وقد فقد الهندام والمظهر المدروس مكياجاً وانتصاباً ولغة فوقية, وضحكات رئاسية!
والمفارقة الثانية بعد دخوله قصره مُتهماً وليس مالكاً أو حاكماً ترتجف منه جدران القصر، إن الذي يحاكمه قاض عراقي شاب! بل ويطلب الرئيس المخلوع بكل تذلل من القاضي بكلمة (من فضلك)!. وكان في السابق لا يسمح لأي عراقي أن يقترب من قصره لمئات المترات.
بل إن القاضي الشاب وجه للرئيس المخلوع -الذي فقد السيطرة على نفسه عندما واجهه القاضي بتهمة غزو الكويت. حيث نفاها الرئيس المتهم، وقام بتوجيه سباب للكويتيين- وجه له كلمات حادة لاحترام خصوصية المحكمة؛ وأن "أي كلام خارج عن الأدب غير مسموح به". هكذا دارت الأيام وأصبح صاحب أكبر السجون سجيناً، وصار صاحب أعتى أجهزة المخابرات أسيراً لدى شعبه، بل ويحاكمه شاب عادي. زال الجبروت، تهدلت الجفون، واستشرس الشعر الفوضوي في الوجه، لا مواكب جرارة تعلن إفساح الطريق، ولا رجال مخابرات على طول الطريق نحو القصر؛ ولا كاميرات الإعلام المُدجّن الذي لا يعرف صورة سوى صورة الرئيس، ولا يُسجل صوتاً أو ينشر خبراً سوى عن الرئيس.
يذكر لطيف يحيى في كتابه "كنت ابناً للرئيس" كيف تواجه صدام مع جيش "البشمركة" وكيف رأَسَ "علي الكيماوي" الحملة ضد الأكراد، وكيف دخل عساكرُ صدام بأحذيتهم الثقيلة مدينة النجف, ويقودهم "علي الكيماوي" لضرب الشيعة واستئصالهم؛ حيث تم اقتياد قائد منظمة "الدعوة" إلى السجن وتم شنقه مع أختيه، وادعى النظام أنهم كانوا يخططوا لاغتيال صدام حسين؛ وبعد الحادثة فرّ أكثر من عشرين ألف عراقي إلى إيران حيث شاهدوا تنفيذ الإعدامات بحق أهاليهم وبأمر من "علي الكيماوي".
ومظاهر الأسطورة تتعدى حوادث "ألف ليلة وليلة" من أطعمة وشراب ورقص ومخابرات, وجنونٍ بحب العظمة، حتى كانت مغامرة الحرب مع إيران التي أذاقت الشعبين ويلات كثيرة، ثم غزو الكويت التي قال عنها صدام في المحاكمة، إن القوات المسلحة ذهبت إلى الكويت بصفة رسمية ونفى مسؤوليته عنها.
مظاهر الأسطورة تتعدى صدام حسين إلى ابنيه "قصي وعدي" اللذين قضيا أثناء معركة مع الجيش الأميركي، فقد حفلت حياتهما بالعديد من المشاهد غير الإنسانية. يقول صاحب كتاب "كنت ابناً للرئيس": "جنون الرئيس وولده عدي بالتأنق متواضع إذا قيس بجنون الزوجة! تبدّل ملابسها كل ساعة... تقتل ملَلَها بالتزيين بالمجوهرات والتسكع في طرقات القصر... تقف طويلاً أمام مرايا "الباروك" الكبيرة لتتملّى قوامها، وتستعرض ثيابها الفاخرة. عشقها للمجوهرات الثمينة لا يقف عند حد".
ويذكر صاحب الكتاب أن توزيع "غنائم" الكويت قد تم بصورة "عادلة" على العصابة ورؤسائها... يقول: "لقد نهبوا الكويت دون رحمة... الرأس الأكبر فاز بنصيب الأسد؛ نَقَل صدام حسين السبائك الذهبية؛ حملت مروحياته أوراق النقد وكذلك الآثار والتحف التي ضمتها صالات المتحف الدولي"!. ويقول: "احتاجت فرقتي لساعتين... جمعنا 42 سيارة (مرسيدس 500) و(BMW) من النوع الكبير... و"رجال (حسين كامل) يبيعون بثمن بخس... الـ"شيفروليه" بخمسة آلاف دولار، الـ"كاديلاك" والـ"BMW" بثمانية آلاف دولار", و"حتى 10 سبتمبر وصلت الحصيلة إلى أكثر من 125 مليون دولار".
نسترجع كل ذلك لنعارض ادعاء الرئيس المخلوع بأن الكويت جزء من العراق، وإلا لماذا يقوم جيشه بكل تلك الأعمال في شعب -يعتقد أنه يتبعه- ولماذا هدم الفنادق... والجسور وأحرق آبار النفط. ناهيك عن الأسرى الذين فاقوا الستمائة ولا يزال مصيرهم مجهولاً... حيث يعتبرهم العراق مفقودين.!
لسنا اليوم في موقع التشفّي بقدر ما نحن نوثق للتاريخ حقيقة الطغاة، وأن ما حصل لصدام حسين، أو ما قام به صدام حسين يقوم به حكام آخرون لم تصل إليهم يد العدالة. هم يستخدمون المخابرات وفرق التفتيش،هم ينهبون الثروات ويوزعونها -ولو على هيئة عقود أو مناقصات- على أقربائهم، هم يُوقفون الناس في المخافر ويلقونهم في السجون... وهم يقرّبون من يريدون دون وجه حق ودون عدالة. وهم الذين يسبّح الإعلام بحمدهم -كما كان يفعل في عنفوان "عظمة" صدام، ليل نهار... ويبدون أمام العالم بأنهم ملائكة رحمة أرسلهم الله للشعب الذليل.
إننا اليوم بصدد قراءة درس صدام حسين قراءة متأنية، وعاقلة! وعلى الكثيرين قراءة الدرس جيداً. فالإعلام المخادع قد يضلل بعض الناس بعض الوقت، لكنه لن يقنع كل الناس كل الوقت. وإن مُقدرات الأمة التي تضيع يومياً على هيئة استثمارات وعقود واتفاقات لن تفيد الشعوب المحتاجة إليها, وإن الحواجز التي يضعها الأباطرة الجُدد -من الحكام- بينهم وبين شعوبهم لن تفيد يوم ارتجاف الأرض وزلزلتها, وإن الكذب على الشعوب المغلوبة على أمرها يكشفه الانفتاح