الكاريكاتير العربي... نضال بالرسم
من بين أساليب النضال المدني يبرز "فن الكاريكاتير" متوسلًا بالرسم دوماً والكلمة أحياناً ليعبر عن موقف أو اتجاه معين، لابساً ثوب الفكاهة والتندر ليس بغية الضحك والتسلية وإنما لإطلاق الخيال وشحذ الطاقة العقلية لاستنباط أفكار وتصورات محددة وتشكيل صورة ذهنية بعينها أو ترسيخها حيال شخصيات وهيئات وأحداث. ويتوزع الكاريكاتير بين السياسي والاجتماعي والإنساني والفكاهي، وقد تختلط هذه الأنواع جميعاً أو اثنان منها. وهو يتسم بخصائص جلية منها المبالغة في إظهار العيوب، والتبسيط، واعتماد الفكاهة، وتخطي حواجز الموضوعية، والاتكاء على الطبيعة الضمنية للصورة المرئية والإقناع البصري. كما يتوسل هذا الفن بخصائص أسلوبية واضحة منها التكثيف والجمع بين العديد من العناصر، وتقريب الأفكار والأحداث إلى ذهن المتلقي أو القارئ.
والكاريكاتير السياسي له وظيفة رئيسية تتمثل في تحريض المتلقي ضد أشكال التجاوز التي تمارس ضده، عبر آلية معقدة، تشترك فيها المكونات البنيوية للرسم الكاريكاتوري مجتمعة، بغية دفع المتلقي إلى اتخاذ سلوك إيجابي حيال ما يجري في الواقع المعيش. ويتم هذا التحريض عبر مستويين، الأول فكري وفيه يخاطب الكاريكاتير السياسي مجموعة القناعات والآراء والمعارف، والثاني انفعالي ويلجأ إلى مخاطبة الشعور، وشحذه باستمرار. ومن تفاعل هذين المستويين يولد مخزون تحريضي هائل لدى المتلقي، تكونه الإشارات والرموز اللغوية جنباً إلى جنب مع الرسم التصويري.
ومثل هذا الأمر حدا بالكاتب الصحفي المصري عادل حمودة إلى أن يصف الكاريكاتير بأنه "فن مشاكس، شرس، تتحول خيوطه إلى أنياب، وتعليقاته إلى أظافر، وسخريته اللاذعة إلى طلقات من المطاط، تصيب الرؤوس الكبيرة بالذعر، لكنها لا تقتلهم، فقط تفزعهم، وتحطم حالات الوقار المرسومة على ملامحهم، وهذا بالتحديد ما يجعل القارئ يضحك، ويسعد، ويشفي غليله، ويؤمن بأن الكاريكاتير سلاح الضعيف في مواجهة القوي.. سلاح المواطن في مواجهة الحكومة".
وفي تقديمه لموسوعة أثيرة عن الكاريكاتير العربي التي وسمت بـ"كوابيس وكواليس" يقول عمر شبانة: "إن كل لوحة من لوحات هذا الكتاب تنتقد بسخرية لاذعة ومريرة مظهراً من مظاهر العلاقة بين السلطة والشعب، ورغم اختلاف الأساليب والأدوات باختلاف الفنانين، فإنها جميعاً تصب في خانة كشف وتعرية الأخطاء والجرائم التي ترتكبها السلطات العربية في حق المواطن العربي، كما أنها تكشف وتعرِّي تشوهات المجتمع العربي بشكل شرائحه وفئاته وطبقاته، فبقدر ما يطال النقد الساخر السلطة وتفرعاتها فإنه لا يغض النظر عن الطرف الآخر في العلاقة، وهو الشعب وقواه، بل يرسم المشهد الذي يظهر مسؤولية هذا الطرف الأخير عما يجري، إذ ليست مهمة الفن أن يقتصر على تناول جانب من الصورة، بل مهمته أن يرينا الصورة من زواياها كلها".
وفي مثل هذا القول ما يدل دلالة قاطعة على أن الكاريكاتير هو فن ظاهر للمقاومة المدنية، إذ إنه في كليته لا يقتصر على فضح السلوكيات المعوجة للسلطة والنيل من شأن بعض رموزها المتعالين على الشعب، بل إنه يدفع الناس أنفسهم إلى الحركة الإيجابية التي تروم مكافحة الظلم ومناهضة القبح وتحسين شروط الحياة. ولهذا يرى الناقد الكبير الدكتور علي الراعي أن الكاريكاتير هو "بحث في أحوال الوطن على شكل رسوم.. وهو مسرح بالإمكانية، خاصة إذا فكرنا في مسرح العرائس، كما أن المسرح كاريكاتير بالقدرة الكامنة، خاصة إذا فكرنا في الكوميديا الهجائية والانتقادية، وكوميديا الكباريه السياسي، وكوميديا النقد الاجتماعي".
فالكاريكاتير لم يعد وسيلة للإضحاك والتسلية الفارغة، التي لا تسعى إلا للترويح عن النفس وذهاب الهم والغم، بل هو يتخذ من الضحك وسيلة للتندر عملًا بالحكمة الشهيرة التي تقول "شر البلية ما يضحك"، ليصبح ضحكاً كالبكاء، يهدف إلى التحريض والتثوير بعد أن يكون قد أدى دوره في التنوير.
وقد لمس طلال سلمان كبد هذه الحقيقة في تقديمه لرسوم ياسين الخليل، حين وصف رسام الكاريكاتير بأنه "المقاتل المفرد" وقال: "متنكر في ثياب الرسام، أما مهمته الأصلية فمقاتل عريق يرفض تبديلها، ويرفض أن يستذكر ما كان قبلها، كما يرفض أن يفترض أن له مستقبلاً خارجها، وهو مقاتل مفرد، ولذا يلقي على نفسه مهمات الجيوش جميعاً. إنه لا يكتفي بالتعبئة والتحريض، ولكنه يتقدم الصفوف للمواجهة المباشرة مع الذات قبل العدو، معركته مفتوحة، ساحتها الوطن العربي، من مراكش للبحرين، أو من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، وزمانها الزمان، وعدوها العدو، بأل التعريف صريحة بالعبرية والأميركية وسائر اللغات «الصليبية»، سياسيّاً، أو اللغات التابعة، حتى لو كان بين الناطقين بها العرب العاربة".
ولأجل هذا فإن رسام الكاريكاتير، لاسيما الذي ينحو إلى السياسة بشتى معانيها، عليه أن يحوز سمات غير عادية، تمثل شروطاً أساسية لمهنته، أولها امتلاك روح السخرية، وسرعة البديهة، وحضور الذهن وتوقده، والتواجد في اللحظة المناسبة والوقت المناسب، علاوة على الثقافة الرفيعة التي تمكنه من اكتشاف ما لا يأتي للعقل بيسر، ولا يرد على الخاطر بسهولة، والإحاطة بتفاصيل الحدث أو الواقعة التي يرسمها. وكل هذا يمكنه من أن يعبر عن فكرته بوضوح وتأثير بالغين، ويجعله يحوز قدرة على التنبؤ بنتائج لا يتوقعها كثيرون.
لكن الرسامين لا يتاح لهم في كل الأحوال أن يصبحوا مقاومين صرحاء أو ظاهرين، تطفح صورهم بالتحريض على التغيير، ومن ثم فإنهم يتحولون أحياناً إلى "مقاومين بالحيلة" حين يلجؤون إلى الرمز، ويسلكون سبلًا غير مباشرة للتعبير عن مواقفهم. ومع هذا يبقى الكاريكاتير نوعاً جليّاً من المقاومة المدنية، في حين يُستخدم على نطاق واسع في المقاومة المسلحة، وقت النزال، ليصبح أداة من أدوات الحرب النفسية التي تشن ضد العدو، فتحط من قوته، وتشجع على التصدي له. وسواء رافقت الرسم كلمات شارحة ومضيفة إلى المعنى، أو ظهر من دونها على صفحات الجرائد فإنه لا يمكن أن يمر هباء منثوراً، ولا يمكن أن يكون مجرد رسم خالٍ من مسألة كبرى، بل إنه ينطوي في مبناه ومعناه على قول وفعل مقاوم، سواء كان مباشراً صريحاً، أو مضمراً ورمزيّاً.