في ظل الحراك العالمي والمستجدات التي تفرضها قضايا العولمة، لابد من وجود قانون يستجيب لتلك المشاكل المترتبة على فرضية تداخل الفضاءات، ويحدد العلاقة بين الدولة والقانون والمجتمع على كافة الصعد. حيث يمكن الاستفادة من هذه المرحلة الحالية التي تشهد إلى حد ما الانتقال من دولة الشرعية إلى دولة القانون. إن واقع الإدارة العالمية الاقتصادية لن يكون مستقراً، إلا إذا برز نظام كوني متجانس قادر على مواجهة القوى الاحتكارية، وتطبيق كل قواعد الحكامة عليها، من المجاهرة والإيضاح والشفافية والديمقراطية وتحمّل المسؤولية الاجتماعية، وهنا تكمن أهمية القضاء ودوره. وفي حال غياب أداة قادرة على الفصل، كالمحاكم، تكون قد تركزت دعائم دكتاتورية السياسة الدولية. وفي هذا الإطار يمكن الرجوع إلى عمل منظمة التجارة العالمية لمحاولة فهم هذه المتغيّرات، خاصة نشاطها على الصعيد القضائي. إن إجراء تقييم دقيق للسجل القضائي لمنظمة التجارة العالمية، يظهر أن النظام قد سجل تقليصاً لدور الدبلوماسية الدولية وعمل بالمقابل على تعزيز حكم القانون. والنزاعات التجارية الدولية الآن تسوّى من قبل منظمة التجارة العالمية، وعلى أساس حكم القانون وليس من خلال اللجوء إلى سياسة القوة المحضة. وتمنح تلك المنظمة كل عضو حقوقاً متساوية والتزامات متساوية في قبول النتائج. ومن أكثر الأمثلة تعبيراً عن واقع عمل هذه المنظمة على الصعيد القضائي، ما يتعلق بقضية الهرمونات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا. والمسيرة القضائية لمنظمة التجارة العالمية أثبتت نجاحها عامة رغم بعض الملاحظات والاعتراضات على مسيرتها القضائية، لاسيما نظام التسويات القضائية للمنظمة، وسرية المداولات، ونفقات التقاضي.. إلخ. وتظهر سجلات منظمة التجارة أن عدد الخلافات أو الشكاوى الواقعة بين الدول والتكتلات داخل المنظمة حتى نهاية عام 2005 بلغت نحو 335 شكوى، منها نصيب الأسد للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقد بلغ عدد الشكاوى الموجهة من الولايات المتحدة ضد دول أخرى 81 شكوى منذ العام 1995، فيما بلغ عدد الشكاوى ضدها 90 شكوى. والنسبة العظمى من الخلافات التي تم تقديمها إلى المنظمة، مقدمة من قبل الدول والتكتلات الكبرى، فيما الدول النامية والصغرى، وهي الأكثر تضرراً من الواقع الاقتصادي العالمي، كانت الأقل تذمراً أمام الهيئات القضائية للمنظمة. والقضايا المطروحة في أروقة المنظمة متنوعة منها ما يتعلق بحقوق الملكية، وفرض قيود على حرية وصول المطبوعات، وسياسة الإغراق. وفي أبريل 2007 تقدمت الولايات المتحدة بشكوى ضد الصين تتعلق بحقوق الملكية الفكرية، وشكوى أخرى تتهمها بوضع قيود على حرية وصول المنتجات الثقافية الأجنبية إلى الأسواق الصينية. وأصدرت منظمة التجارة العالمية أول أحكامها ضد الصين وشملت القضية ثلاث دعاوى أميركية وكندية وأوروبية بشأن الضرائب التي تفرضها بكين على واردات مكونات السيارات، وهذا أول حكم ضد الصين منذ انضمامها لعضوية المنظمة عام 2001. وطلبت لجنة فض المنازعات في المنظمة من الصين مطابقة نظام الواردات لديها مع قواعد التجارة العالمية. والخلافات القضائية داخل المنظمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معظمها قائم على دعم الصناعة والزراعة. وقد تكون المنافسة القضائية بين الشركتين، "إيرباص" و"بوينغ" تدخل في إطار استراتيجيات الدول التي تعتبر صناعة الطيران قطاعاً استراتيجياً يدخل في صميم الأمن القومي. فالولايات المتحدة قدمت شكوى ضد مؤسسة الطيران الأوروبية، تتهم فيها حكومات الاتحاد الأوروبي بتقديم الدعم لشركة إيرباص، وتعتبر هذه القضية من أعقد القضايا التي بتت فيها المنظمة الدولية. وعرضت الولايات المتحدة أدلة على تقديم السلطات في مقاطعة ويلز 9,5 مليون دولار كمنحة لتدريب فنيين جدد لطائرة إيرباص A350 المنافسة لطائرة البوينغ 787، حيث يحاول كلا الطرفين البرهنة على مخالفة الطرف الآخر لمبادئ المنظمة ودعم شركته الوطنية. وأصدرت منظمة التجارة العالمية حُكمها القضائي المكون من 1200 صفحة والذي تدين فيه الاتحاد الأوروبي. قوى السوق بأمسّ الحاجة إلى سلطة القضاء لإعطائها الشرعية القانونية، ولصون ملكيتها وحماية حرية عملها. والمنظمات غير الحكومية تستطيع لعب دور على صعيد العمل القضائي للمنظمة، من خلال الحق الذي أعطي لها في تقديم مذكرات النصح والإشارة لهيئة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية. كذلك يمكن الاستفادة من السلطة القضائية العالمية للمحكمة الجنائية الدولية، خاصة فيما يتعلق بقضايا النزاعات المسلحة وانتهاك حقوق الإنسان. فلابد من الإشارة إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية المتعلق بمسؤولية الاشتراك في الجريمة، والذي يمكن أن يخلق مسؤولية جنائية دولية للموظفين والمسؤولين. وعلى المجتمع المدني الضغط لإيجاد تعديلات في نظام المحكمة من أجل إدراج مسؤولية المؤسسات في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. المجتمعات بحاجة إلى قوانين مالية واقتصادية وسياسية تنظم حركة الأسواق الاقتصادية. وإلى أن يتم الاتفاق على وضع تلك القوانين، يبقى القضاء وقدرته على الحركة خاصة من باب الاجتهاد، المدخل الأسهل والأسرع لمعالجة هذا الوضع. وفي إطار لعبة السلطة والسلطات المضادة، يمكن للقضاء أن يملأ الفراغ الناتج عن هذه المتغيرات، سواء على صعيد الفاعلين من شركات، ومنظمات غير حكومية، وحكومات، ومنظمات دولية، وأفراد. وفي عصر السوق لا يمكن إيجاد توازن بين كل تلك الجهات سوى من خلال القانون. وفي غياب مدلول قانوني معولم، قد تكون قرارات واجتهادات المحاكم المدخل لواقع جديد يتبلور في ظل التباين في العلاقة بين العولمة والقانون. سلام الربضي كاتب اقتصادي ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"