كل حضارة معينة تعكس المعتقدات والمبادئ والقيم التي تنبثق من روح الشعوب وتعبر عن روح الأمة التي تنشئها، فلا يمكن لحضارة معينة أن تولد من فراغ لأنها كما عرفها وليم جيمس ديورانت، توحي بنظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في الإنتاج الثقافي. وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، فهي بذلك نظام اجتماعي معين معقد ومترابط تحكم الماضي بالحاضر وتضم الفنون والآداب والمعتقدات والمعرفة والعادات والتقاليد وكل القدرات التي يتشبع بها الإنسان بحكم كونه عضواً في المجتمع. وبالرجوع إلى تعريف وليم جيمس ديورانت السابق، لا بد وأن نرى في العناصر الأربعة المؤسسة للحضارة، أنها تقوم على مجموعة من العقائد وعلى منظومة من الأخلاق وقيم الإيمان وعلى تصور متماسك وشامل للكون والحياة والإنسان، وهذه في نظري القاعدة الأساس لنشوء حضارة ما في أمة من الأمم. فالحضارة هي استمرارية تاريخية يتداخل فيها الاقتصادي والجغرافي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي والثقافي والعلمي، ولهذا يعرف البعض الحضارة على أنها «الزائد عن الضرورة من العمران» (ابن خلدون) و«لكل حضارة دستور أخلاقي، يتجلى في العقيدة وقوة النفس» (أوزوالد شبنغلر) و«هي وحدة تاريخية (...) والاستجابة للتحديات عند الإنسان، فرداً أو مجتمعاً، هي سبب نشوء الحضارة» (آرنولد توينبي)، وإجمالاً يمكن أن نقول إن الحضارة هي ثمرة كل جهد بشرى يبذل لعمارة الأرض وفق ثقافة ما، أي أن لكل أمة منهجها الاجتماعي، ولكل أمة كفاءاتها ومهاراتها المادية، أو بعبارة أخرى فإن لكل أمة ثقافتها ومدنيتها الخاصة بها، والثقافة والمدنية عاملان متكاملان في إقامة البناء الحضاري لكل أمة. والثقافة تشمل الأفكار واللغة والعادات والتقنيات والأعمال الفنية والأدوات، ويكون استعمالها لصيقاً بالبشر الذين يتوفرون على القدرة العقلية والتفكير المجرد، ولذلك عرفها بعضهم بأنها خاص بالإنسان المفكر Homo Sapiens ولا يمكن حصر الثقافة في تعريف معين، فقد أحصى "كروبر" و"كلوكهوهن" عالما الأنثروبولوجيا المشهوران، أكثر من مئة وستين تعريفاً للثقافة منها أنها «الأفكار الذهنية» و«البناء المنطقي» و«الخيال الإحصائي» و«السلوك المتعلم» و«آلية الدفاع النفسي» و«التجريد انطلاقاً من سلوك». وعموماً، مهما كانت نوعية الحضارة، إفريقية كانت أو إسلامية أو غير ذلك، فهي نتاج تلاقح عدة شعوب وأعراق شتى، تنتمي إلى ثقافات متعددة تصب جميعها في اتجاه تتشكل منه الحضارة، فهي إذن لا ترتبط بجنس أو شعب من الشعوب، على رغم أن الحضارة قد تنسب إلى أمة من الأمم أو إلى منطقة جغرافية، بخلاف الثقافة التي هي رمز للهوية، وعنوان على الذاتية، وتعبير عن الخصوصيات. وبالرجوع إلى مفهوم الحضارة عند هنتينغتون كما قلنا ذلك في المقالات السابقة، نرى أنه يحصرها في كيان مغلق وثابت لا يتحرك، وتتوفر على خصائص قارة تفصلها عن باقي الحضارات، وهذه الخصائص مرتبطة كل الارتباط بالثوابت اللغوية والتاريخية والتراثية والمؤسساتية والدينية. فالحضارات عنده كيانات هادفة، ما جعله لا يميز بين الحضارة والثقافة، بل يستعملهما في كثير من الأحيان كمرادفين، فتجده يقر بأن مصدر النزاعات في العالم سيكون ثقافيّاً وحضاريّاً: «الفرض الذي أقدمه هو أن المصدر الأساسي للنزاعات في هذا العالم الجديد لن يكون مصدراً أيديولوجيّاً أو اقتصاديّاً في المحل الأول. فالانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية، والمصدر المسيطر للنزاع سيكون مصدراً ثقافيّاً، وستظل الدول والأمم هي أقوى اللاعبين في الشؤون الدولية، ولكن النزاعات الأساسية في السياسات العالمية ستحدث بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة، وسيسيطر الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، ذلك أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل»، بمعنى أن العامل الثقافي والحضاري هو المصدر الرئيسي للانقسامات بين الشعوب التي تتطور في ظل تجمعات ثقافية كبرى تتمحور حول سبع أو ثماني حضارات. وهذا كما قلنا كلام كله خطأ، فالحضارة والثقافة ليستا أمراً واحداً، وخلط المفهومين يدفع إلى تحويل جميع الفوارق النسبية الإثنولوجية أو اللغوية إلى فوارق حضارية، ويقود إلى التعسف في استخدام المفاهيم، كما أنه لا يمكن أن نتصور حضارة دون ثقافة أو ثقافات وهي الوقود الذي يحرك الحضارات، ولا يمكن أن نتصور ثقافة من دون حضارات، إذ يستحيل أن نتصور الحضارة كمجال تفاعل الثقافات من دون وجود هذه الثقافات التي تتداخل فيما بينها، وكذلك لا يمكن تصور ثقافة قائمة بذاتها ومعزولة كليّاً عما حولها، فنظرية هنتينغتون وغيره خاطئة وخطيرة علميّاً ما دامت تنطلق من فرضية مفادها أن الحضارة والثقافة معطى ثابت وجامد. وهذا الخطأ العلمي شبيه ببعض الدراسات الأكاديمية، على خطى عبدالله حمودي وهشام شرابي، التي ترى في الذهنيات والهوية العامل المستقل في تفسير السلوكيات السياسية العربية التي توصف بالبطركية والسلطوية والجمود، ومن ثم مناعة تلك الذهنيات ضد الديمقراطية، فهذه مغالطات ومبالغات يجب التصدي لها، فالحضارة والثقافة، كما الهوية، ليست بمعطيات ثابتة أو جامدة، وهي تبقى دائماً نتاجاً لعملية تركيب معقدة وتفكيك مستمرة في الزمان والمكان. ويلتقي هنتينغتون مع عدد كبير من الكُتاب العرب في النتيجة (وعلماء الأنتروبولوجيا معنيون كثيراً بموضوع الذهنيات والمسالك)، وإن كان الجانب الأول يتحدث عن الصراع في العلاقات الدولية، والجانب الثاني عن سبب غياب الديمقراطية في العالم العربي، فكلاهما يلتقيان في كون الجماعة القومية العربية والإسلامية لها أداة فكر خاصة بها تعمل بخلاف أدوات فكر الآخرين، مما يفسر انتشار السلطوية في العالم العربي وحتمية الصراع الحضاري -الثقافي -الإسلامي مع الغرب، وانتشار هذه النظريات وشيوع هذه التمايزات أمر مدهش جدّاً، وهي خطيرة سياسيّاً وعلميّاً، وتتم على حساب التقدير الوافي لسُنة التركيب والتغيير والتقدير عبر الأزمنة، وللحديث بقية.