من الأمور شديدة الأهمية والإلحاح في مثل هذه الأوقات التي نمر بها الآن الانخراط في حوار واسع ومستنير بين أتباع مختلف الأديان والثقافات، وخاصة إذا أخذنا بالاعتبار الأسلوب المتسارع الذي يتطور به عالمنا. فنحن نشهد في مرحلة عولمة ما بعد الحداثة انحطاطاً في الاقتناع بفلسفة التقدم: حيث لم تعد فكرة الخلاص العلمانية تملك الإجابات على مصادر القلق الوجودية في وقتنا الحاضر. وفي الوقت الراهن تتصارع الإنسانية مع شكوك عميقة سببها العولمة الاقتصادية والحدود التي يسهل النفاذ منها واختلاط الثقافات والتقاليد نتيجة الهجرة، وتفشي أساليب تزداد ذكاءً في التواصل والتنقل. وفي هذا المناخ المضطرب، تعرض الديانات فرص التسامح والحكمة والمشاعر الأخلاقية السامية، القادرة على إيجاد رابط قوي بين الشعوب بما يتيح لها إمكانية تجاوز وتطويق خلافاتها. وقد تكون عندنا معتقدات مختلفة ونكون ممن يتبع مدارس متباينة في الفكر الفلسفي وفي رؤيتنا لما وراء الطبيعة، ولكنني أعتقد بقوة أن من الممكن الشراكة في نظام عالمي براغماتي من الأخلاقيات يسمح لنا جميعاً بأن نعيش سويّاً، دون مشاكل ولا قلاقل. وبالطبع قد تختلف التفاصيل من ظرف لآخر، ولكن باستطاعتنا بالتأكيد أن نعمل معاً لإيجاد مستقبل أكثر أماناً وسلاماً. وفي رأيي أن الأديان ليست بالضرورة أفكاراً تجريدية، ولذا أرى أن حوار الأديان هو قبل كل شيء لقاء وتواصل بين بني البشر الذين قد ينتمون إلى تقاليد دينية مختلفة، ولكنهم على رغم ذلك يتشاركون في الإنسانية والعالم والواقع وأحياناً ينتمون إلى نفس الثقافة والوضع الاجتماعي واللغة وأساليب التفكير والاهتمامات. ولذا فإن فرص العمل المشترك ممكنة فيما بينهم. وحوار الأديان والثقافات هو بالدرجة الأولى قضية فهم "الآخر". وينبغي أن تحفزه أولاً وقبل كل شيء رغبة طبيعية في لقاء الآخر، الذي قد يختلف معك ولكنه متماثل معك أيضاً من نواحٍ عديدة. وفي نهاية المطاف، نحن ننتمي جميعاً إلى الأسرة الإنسانية الكبيرة نفسها. وإن كنا مختلفين عرقيّاً ولغويّاً ودينيّاً، فإن هذه الفروق هي التي تغنينا وتزيد عالمنا الإنساني تعددية وثراءً وجوديّاً. وقد أمرنا في القرآن الكريم بالتعايش والتعارف "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا". ولاشك أن الحوار مع الآخر هو أحد أكثر مداخل التعارف بين مختلف الثقافات والشعوب فاعلية وإيجابية. وينبغي أن يكون الحوار الديني، في المناخ الحالي المتوتر، جزءاً من استراتيجية جغرافية سياسية يمكن أن نسميها استراتيجية جيوثيولوجية، في مقدورها أن تساعد على بناء التفاهم بين الأمم، وأن تساهم في تعزيز ثقافة التعايش والسلام داخل المجتمعات وبين مختلف الشعوب. إن هدف حوار الأديان هو منع التوترات التي يمكن أن تبرز بين المجتمعات الدينية. ويمكن لاستراتيجية جيوثيولوجية متبصرة أن ترد على تهديد أية ادعاءات هوية يمكن أن تؤدي إلى تمزيق نسيج المجتمعات وتعرض الوحدة الوطنية للخطر وتطلق نزاعات بين الأمم. ولذا فمن المهم جدّاً اليوم ألا تحوّل الديانات عالميتها إلى انعزالية تُجهض القيم الروحانية التي تدافع عنها. ويتعين على جميع الأديان أن تقدم الأمل بحياة أفضل وأكثر عدلاً ومساواة. وبدلاً من محاربة بعضها بعضاً يتعين عليها أن تعمل، يداً بيد، ضد تهديدات ثقافة العنف وسوء الفهم التي تعرّض إنسانيتنا للخطر. طارق أوبرو مدير مسجد بوردو ورئيس جمعية الأئمة الفرنسية ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند"