في سنة 1966 أجرى الفيلسوف الألماني الأسطوري "مارتن هايدغر" مقابلة يتيمة مع صحيفة "درشبيجل" اشترط أن لا تنشر إلا بعد وفاته التي حدثت بعد عشر سنوات من المقابلة المثيرة (سنة 1976). وقد أطلق "هايدغر" في حديثة للصحيفة الألمانية عبارة غامضة ،أثارت – ولا تزال تثير – جدلاً واسعاً، هي قولته "لا يمكن أن يخلصنا اليوم إلا اله". لا يستقيم فهم هذه العبارة إلا بتذكر معطيات ثلاثة رئيسية في فكر هايدغر: أولًا: أن هايدغر كغيره من كبار فلاسفة الغرب المحدثين دخل إلى المشاغل الفلسفية من البوابة اللاهوتية. تعلم هايدغر الفلسفة في الملتقيات الكنسية، وكانت أعماله الأولى حول "القديس أوغسطين"، وتأثر بقوة ببعض كبار رجال اللاهوت المسيحيين وفي مقدمتهم "المعلم ايكارت"(من القرن الرابع عشر)، الذي كان له تصور صوفي للإلوهية قريب من تصور "ابن عربي الحاتمي" (التفريق بين الإله والإلوهية التي لا سبيل للتعبير عنها ولا تحديد موقع لها). ويقر هايدغر نفسه بهذا الدين للاهوت بقوله :"بدون هذا المنبع اللاهوتي، لم يكن بإمكاني أبدا أن أصل إلى طريق الفكر". ثانياً: يرى هايدغر أن الفلسفة الحديثة كلها (من ديكارت وكانط إلى نيتشه) تتحرك داخل الأفق الميتافيزيقي للعقيدة المسيحية. وهذا الأفق هو أفق "الذاتية" بتصورها للعقل كتمثل وفهم وللحقيقة كمطابقة (بين الفكرة والموضوع). ومع ذلك فإن الفلسفة لا يمكن أن تكون مسيحية، لأن سؤالها هو سؤال الوجود أو الكينونة وليس "الموجود الأسمى"(الإله المتجسد في شخص المسيح أي الإنسان الأعلى حسب المقاييس اللاهوتية المسيحية).إن اللاهوت بالنسبة له مجرد "علم وضعي" لا يتعلق بالإلهي وإنما بنمط الوجود المسيحي كما يتشكل في أنماط وعي وتأويل ومنظومات عقدية. ولا يحاكم "هايدغر" هذا التصور الذي يستند لتجربة الإيمان:"فالإيمان لا يحتاج لفكر الوجود، وعندما يلتبس به لا يعود إيمانا بالمعنى الحقيقي للعبارة". إلا أنه يعترف أن تجربة الحضور الإلهي في الوجود الإنساني تنكشف في بعد الكينونة بمفهومها الفلسفي الأصيل. ثالثاً:إذا كان هايدغر يميز بوضوح بين المبحثين الفلسفي واللاهوتي، إلا أنه يعتبر أن "الإلهي" موضوع فلسفي لصيق بسؤال الوجود في عصر التقنية، الذي هو عصر الخواء والعدم وهيمنة العقل التعليلي الحسابي الساعي للسيطرة والتدمير. فالإلهي يدخل في أفق المقدس الذي يرتاده الشعراء والفلاسفة، بما هو أفق انتظار ومعاناة واستذكار (للوجود المنسحب المختفي ). ويبين الفيلسوف الفرنسي المعروف "جاك دريدا" أن هايدغر وإن كان يحرص أشد الحرص على التحرر من اللاهوت المسيحي، إلا أنه ظل سجين أفق "الإيمان" بمفهومه الديني الأعمق، ففكره يصدر عن مفهوم الوحي والتنزيل والبحث المهووس عن المقدس والطهر والأصالة. وقد قيل الكثير عن النزعة الوثنية في فكر هايدغر (تقديس الأرض كموطن وجذر انتماء روحي) المتنكرة للتراث العبراني، مما وجد فيه البعض خلفية خفية لاتجاهه العدائي المزعوم للسامية. إلا أنه مما لا شك فيه أن فلسفة هايدغر قد جددت الفكر الديني في الغرب، فلسفياً ولاهوتياً، في منحيين رئيسيين على الأقل: أولهما: تحرير التجربة الدينية من المقاييس الميتافيزيقية التي صاغت منذ العصور الوسطى نمط المعرفة الدينية. فهذه المقاييس ليست من صلب الدين، بل من الأصح القول إنها أفسدته وحولته إلى مجرد علم وضعي محدود قائم على تمثلات عقلية مستمدة من المقولات الفلسفية اليونانية المنتزعة من سياقها المرجعي. وهكذا ظهرت محاولات فلسفية جريئة لصياغة تأويلية دينية على أنقاض الميتافيزيقا، من أبرزها النزعة الغيرية لدى الفيلسوف اليهودي "امانيال لفيناس" وأنثربولوجيا الإرادة الإنسانية لدى الفيلسوف المسيحي "بول ريكور".فبالنسبة لأولهما تتنزل التجربة الدينية الأصيلة في نزوع أخلاقي رحب حيث تنمحي الذاتية الفردية المغلقة باستقبال "وجه الآخر" المحدد لهوية اختلافية منفتحة، وبالنسبة لثانيهما تتنزل التجربة في أفق التأويل والسرد، حيث يدخل الآخر في تحديد الذات (الذات بصفتها آخر)، وتصبح تجربة المعنى ضيافة لغوية وقيمية سمحة. في الحالتين، يجري البحث عن خروج من الأفق الميتافيزيقي للحداثة، الذي هو الأفق اللاهوتي المسيحي، وان كان التساؤل مطروحا حول تأثير لاهوت الشتات اليهودي في هذه النزعة الاختلافية البديلة. ثانيهما: انهيار المقاربات الوضعية والتاريخانية في النظرة للدين، التي هيمنت على الساحة الفكرية الغربية منذ عصور التنوير والثوران الأيديولوجي. فلم يعد بالإمكان النظر للدين كحالة لاهوتية متجاوزة في عصر التفسير العلمي للطبيعة والمجتمع (الحالة الوضعية بلغة أوغست كونت)، كما لا يمكن النظر إليه على غرار الماركسية التقليدية كتعبير عن حالة الطفولة الإنسانية الساذجة أو مجرد "أفيون للشعوب". وقد أصبحت الفلسفة اليوم أكثر صرامة ودقة في تناولها للمسألة الدينية التي يميل الكثيرون إلى اعتبارها من ثوابت الوجود الإنساني المشترك ولا انفكاك منها. فالدين – كما يرى دريدا- ينبع من مصدرين أساسيين هما: "تركة الثقة" التي هي خلفية كل إيمان واعتقاد، و"طلب النقاء" الذي هو خلفية كل مقدس ومعظم. ولذا فن اللغة والقانون يتأسسان ضرورة على الدين الذي هو مستودع الثقة في المعنى. وهكذا فإن الدين يبدأ مع تجربة اللغة نفسها، فكل تعبير موجه للآخر يقتضي حضور الغائب الضامن للدلالة والشاهد على عقد المخاطبة والتفاهم. كما أن كل فعل معياري أخلاقي أو تشريعي يقوم على منظور قداسي ينتمي بداهة للأفق الديني. إن الحقيقة الماثلة للعيان في الغرب اليوم، هي انهيار المؤسسة الدينية التقليدية، وتراجع الإقبال على التدين الطقوسي، وتجذر التجربة العلمانية الفاصلة بحزم وصرامة بين الدين والسياسة. إلا أن هذا التراجع للمؤسسة الدينية وللأشكال التقليدية من التدين يواكبه إعادة الاهتمام غير المسبوق بالدين كتجربة، وافق للمعنى والقيمة، بعد أن توهمت عصور الحداثة والتنوير أنها حسمت بالطرق العقلانية والعلمية المسألة الدينية التي أضحت من مخلفات الماضي السحيق.