الأُزري... بقية وزراء العراق الحكماء
سألت الوزير عبدالكريم الأُزري (1909 -2010)، الذي رحل قبل أسابيع عن عمر ناف المائة بعام: "كيف استقبلت نبأ الثورة"! امتنع، وكأنه لا يريد تذكر تلك اللحظة. وبعد إلحاح قال ما نُشر في مجلة "النَّور"(1995): "كنت مستعداً للذهاب إلى الوزارة، صباح الاثنين 14 تموز (يوليو) 1958، وإذا بنبأ الثورة من الإذاعة، فبقيت منتظراً لا ألوي على شيء، بعدها وصلت مفرزة يقودها ضابط، وطلبوا مرافقتهم، طمأن الضباط أهلي بأني سأعود سالماً، وقابلني حينها عبدالكريم قاسم، مدحني ولامني، وأوصى بيَّ خيراً". استمر التوقيف شهوراً ثم المنع من السفر، ولم يُحاكم مع مَنْ حوكم من رجالات ذلك العهد.
بهذا المشهد انتهى الأُزري الوزير والموظف في الدولة العراقية، مذ أيام الملك فيصل الأول (ت 1933)، ليصبح مهاجراً، تنقل بين بيروت ولندن، حيث استقر حتى وافاه الأجل بها. وعن ثبت بخط يده، وما كتبه مير بصري (ت 2006) في "أعلام السياسة": كان من أوائل الدارسين بالجامعة الأميركية وبمدرسة لندن للاقتصاد (1929- 1930)، وتدرج بالوظائف: سكرتيراً للقنصلية العراقية بكرمنشاه (1930)، وملحقاً بالمفوضية بطهران، وقنصلاً بالمحمرة.
بعدها ترك العمل الدبلوماسي ليعمل مدرساً بدار المعلمين الابتدائية، ثم سكرتير وزارة المعارف، فمعاوناً لرئيس الديوان الملكي(1934)، ثم وكيلاً فرئيساً للتشريفات الملكية. وتراه تدرج من مدير عام الواردات (1937) إلى مدير التجارة، فمدير عام وزارة الاقتصاد والنِّفط، ثم نائب إدارة المصرف الوطني (1949)، فوزير المالية (1950)، فوزيراً للأعمار (1954)، وأصبح وزيراً لمالية الاتحاد العربي الهاشمي (العراق والأردن)، وكان رئيسها نوري السعيد (قُتل 1958).
تنبيك سيرة الرجل أنه كان جهبذاً في إدارة المال والاقتصاد، ولم يضع أمام اسمه لقب الدكتور، مثلما تباع وتشترى اليوم، ويُصر على استخدامها مَنْ لم يبلغها، ولم "ينط" على المناصب الرسمية "نطاً"، إنما تسنمها بعد التعلم أولاً في أرقى مدارس الاقتصاد، ثم التدرج الواهب للخبرة والسلوك والخلق الرفيع. فمن مساوئ تغليب الجهلاء على البلغاء هو شراهة الفساد في الإدارة والمال، وتعطيل شؤون النَّاس، وتأخير تطور البلاد.
فمن وصايا الملوك لوزرائهم: "اعلموا أنكم إن هممتم أن لا تستعينوا إلا بمَنْ تكاملت فيه الخِصال الرَّضية..." (الجهشياري، الكُتاب والوزراء). ولإخوان الصفا (القرن العاشر الميلادي) في وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب وقفة: "تدخل الشبهة على كل مَنْ يتعاطى صناعة وليس من أهلها. ومن أجل هذا قيل: استعينوا على كل صنعة بأهلها" (الرسالة الثانية من القسم الرياضي).
كانت وزارة المالية أوفر حظاً من باقي الوزارات العراقية، حيث تولى أمرها وزراء حكماء، أسسها الأعلم بالمال والاقتصاد ساسون حسقيل (ت 1932)، وقصة إصراره على الذهب مقابل عائدات النفط مشهورة، وقد انتفع بها العراق لعقود طوال، وكان مثالاً للأمانة والنزاهة، جاء ذلك باعتراف مليكه فيصل الأول، عندما حجب الوزير عن البلاط الزيادة بالمصاريف، لأن الميزانية لا تتحمل.
ثم حظيت الوزارة بالوزير يوسف غنيمة (ت 1950)، مفسر القوانين، ومدير عام الواردات، ومدير عام المالية، وكان التوزير بطلب شخصي من الملك غازي (قتل 1939) بعد رفضه المنصب عدة مرات، وأول مرة تُقدم الميزانية مع خطاب العرش، وله إنجازات نافعة للعراق لا مجال لسردها (السياسي الأديب يوسف غنيمة). وثالث الوزراء الذين حظيت بهم وزارة المال طوال تاريخ الدولة العراقية حتى يومنا هذا، هو موضوع المقال.
كان الأُزري أبرز المنجزين لمجلس الإعمار، وهو المجلس المسؤول عن التنمية وبناء القاعدة التحتية للبلاد، وكان مجلساً مستقلاً، رئيس الوزراء مجرد عضو فيه. خصصت له في البداية كل عائدات النِّفط، لأن البلاد كانت متعددة العوائد، وعلى وجه الخصوص الزراعي منها، فكان العراق مصدراً للعديد من المحاصيل الزراعية. ثم خُفضت النسبة إلى 70 في المئة. ومن إنجازات المجلس تشييد السدود العملاقة لدرء الفيضانات ومواجهة ما تتحكم به تركيا وسوريا، في غالب الأحيان، بمياه الفرات. وكان سد الثرثار في مقدمتها.
سأل عبدالكريم الأُزري يوماً، حسب ما روى ليَّ عند مقابلته أكثر من مرة، الرجل القائم على خدمة مكتبه عن أحواله، وكان في سن مشرف على الاستغناء، وبهذا سيجف مصدر عيشته وعيشة أسرته، لأن التقاعد كان من حق الموظفين فحسب. ويدخل في هذه الطبقة المهضومة الحق: السواقون، والفراشون، والمضمدون في الطبابة، والحُراس، وموزعو البريد. أوحت إجابة الرجل، وانكساره، للوزير بفكرة تقديم مقترح قانون التقاعد لهذه الطبقة العريضة من النَّاس، ويعني هذا حصول أكثر من نصف خُدام الدولة، على حدِّ عبارة الوزير، على رواتب تسدُّ لهم عوز الشيخوخة، وما يصادفهم من العاديات. إلا أن رئيس الوزراء ضاق بالمقترح مستغرباً من طلب وزير ماليته غير المراعي للميزانية بتحميلها رواتبَ تقاعدية، مدى الحياة، للألوف المؤلفة! إلا أنه بتدبير الوزير صدر القانون، وهو إنجاز للطبقة الكادحة من وزير رجعي في عرفنا التقدمي!
يمكن استخلاص العبر من حياة هذا الوزير، وما أبلغ الحاجة إليها هذه الأيام بالذات، منها: النزاهة، فمحكمة الثورة (1958) لم تُقدم ضده قضية فساد، ولا تلاعب بالمسؤولية، ولا قفزاً على منصب، ومنها استخلاص التجربة من مجلس الإعمار وإنجازاته، وها هي سبع سنوات والإعمار بالعراق شعار مرفوع فحسب، ولا أحد يدري عن مصير المليارات المرصودة لهذا الغرض.
لا ننفي سيئات عهد الوزير، وما لنا من ملاحظات حول ما كتبه نفسه بشأن الطائفية إبان العهد الملكي، والمبالغ به، في كتابه "مشكلة الحكم في العراق" (1991)، مع أنه كان أحد رجالات ذلك العهد، لكن للرجل ما لا يُغفل من مناقب، وها هو العراق غدا خلافاً للقاعدة: ماضيه خيرٌ من حاضره، والعيب في الأنام لا في الأيام! هذا ونتأمل مع الشيخ علي الشرقي (ت 1964): "لعلَّ الغدَ المأمول يزحفُ جيله... لفتحٍ فقد آنست بعض الطلائع" (الديوان).
ولستُ مبالغاً إذا قلت: لم ترَ عيني رجلاً مثل الوزير عبدالكريم الأُزري، يستقبلك عند عتبة الباب، وهو ينيف على الخامسة والتسعين، بأناقة مثالية وحفاوة بالغة وتواضع جم، ويودعك بأكثر منها. ولم أعاصره حتى أحكم هل كان عليها وهو وزير أم لا! أظنه كذلك، فقد قيل: "مَنْ شب على شيء شاب عليه".