عقدت الرابطة المحمدية لعلماء المغرب مؤتمراً بأغادير بعنوان "أزمة العلوم الإسلامية، أزمة منهج أم أزمة تنزيل". وقد قصدوا من العلوم الإسلامية: الفقه وأصوله، والتفسير القرآني، وعلم الكلام، وعلوم الحديث والرواية، وعلوم اللغة العربية. كما قصدوا بالتنزيل، مسألة تنزيل الأحكام على الوقائع، وهي مسألة تقنية إلى حد كبير، بينما اعتقدوا أن الأزمة المنهجية -إن كانت في العلوم الدينية الأساسية هذه، فإنها حَرِيَّةٌ أن تتسبب في تأزُّمٍ على مستوى النخبة المتخصصة، ومستوى الجمهور المتلقّي للعلوم الدينية. والواقع أن الأزمة في علوم الشريعة والإسلام تتجاوز حتى هاتين المسألتين، فقد ظهرت هذه العلوم وتكونت أصولُها وقواعدُها في القرون الأولى لظهور الإسلام وقيام حضارته. وما طرأت على مناهجها تعديلات في الأزمنة المتأخرة، وإنما ازدادت الفروع والحواشي عليها وحسب. وفي الأزمنة الحديثة برزت الحاجةُ لإعادة النظر والإصلاح وأحياناً إعادة التأسيس، بيد أن شيئاً من ذلك لم يحدث. والذي كان أن حركة كبرى انطلقت في الفقه والاجتهاد من الناحية العلمية، دون مراجعة كبيرة لأصول الفقه. والشيء نفسه تمَّ في علوم اللغة العربية، كما ظهرت كتبٌ كثيرة في التفسير القرآني. وبذلك فإنّ هذا المؤتمر الذي شاركت فيه نخبة من المختصين، كان من شأنه توجيه النظر إلى هذا الواجب الذي جرى إهمالُهُ أو تفويت فُرصِه إلى حد بعيد. وبالفعل فقد قُدِّمتْ فيه بحوث تفاوتت في جدِّيتها، لكنها كشفت بمجموعها عن جذور المشكلة وعن إمكانيات ووسائل المعالجات. وقد كان هناك بحثٌ في معنى مصطلح "علم" لدى المسلمين، وفي الأزمنة الحديثة. وقيل في الإجابة على هذا الإشكال: إنها مجموعة من المسائل في مجال معين، تتحول إلى مقولات وقضايا، تتسقُ بين المقدّمات والنتائج. وإنما يظهر الاختلال في "العلم"، سواء أكان من العلوم النظرية أو الطبيعية، إذا اختلّت فيه قضايا البنية أو المقولات، وإذا لم تَعُدْ المقدّمات مُوصِلة للنتائج. ثم كان هناك نقاش في العلوم الإسلامية، والعلوم الإنسانية، بشكل عام، وهل هي علوم معيارية أو وصفية؟ فلو قلنا إن علوم العربية المقصودُ بها أمران: الإعانة على فهم النصوص، والإرشاد إلى تعلُّم الأساليب الصحيحة والفصيحة، فهل يكون ذلك وصفياً أو معيارياً؟ وقد رأى أحد الباحثين المشاركين أن هناك تشارُكاً بين الصفتين الوصفية والمعيارية في أكثر العلوم الإنسانية، مع غلبة المعيارية على ما عداها في العلوم الدينية البحتة. في المحاضرة الافتتاحية بالمؤتمر، والتي عُهِد إليّ بإلقائها، رَكَّزتُ على توجّهين رئيسيين للتعامل مع النص الإلهي؛ هما التوجُّه التنزيلي، والتوجُّه التأويلي. يقول التوجُّه التنزيلي الذي ساد من خلال "رسالة" الإمام الشافعي إن الأحكام الشرعية هي مُعطىً مُسْبق، وإنما وظيفة الفقيه هي كشفُها من خلال أدلتها التفصيلية، ويتم ذلك من خلال القياس، الذي كُتبت فيه آلاف البحوث للإرشاد إلى اكتشاف "الجامع" أو العلة بين الأصل والفرع. وما فصَّلْتُ في دراسة هذا المنزع لأنه معروف، وقد داخَلَهُ الخلل إلى حدود بعيدة في الزمان الحديث. بل التفتُّ إلى المنزع الآخر الذي لم يَسُدْ في التفكير التشريعي وهو الاتجاه التأويلي، واعتبرتُ الحارث بن أسد المحاسبي، تلميذ الشافعي، ممثلاً له في كتابيه: "مائية العقل"، و"فهم القرآن". وهو يعتبر العقل قوة أو دافعاً إنسانياً (غريزة)، ولا يرى أن الحكم الشرعي معطىً سابق، بل إنما يُنتجُهُ الدليلُ، وفي عملية ذات ثلاث خطوات يسميها عملية "العقل عن الله": تأمل النص في حقيقته ومجازه، وتأمُّل عمل النص في الجماعة، والاستناد في بلورة الأحكام من جانب الفقيه في خطوة ثالثة إلى تأمل النصّ والنصّ في تجربة الجماعة معاً. وهذه العملية الثلاثية يسميها المحاسبي تأويلاً. وفي حين كان هناك بحث واحد عن النحو العربي، إصلاحاً أو تجديداً، انصبّت أكثر البحوث على أصول اللغة، وأصول الدين، وبحثان عن علم التفسير. في النحو رأى الدكتور فيصل الحفيان أن العلم "احترق" وما عاد يؤدي إلى شيء. ثم ذكر مقترحات الإصلاح والتجديد منذ القديم وإلى الزمن الراهن. وفي التفسير لاحظ الباحث كثرة التفاسير الحديثة، مع عدم الاهتمام بالضوابط أو صنع قواعد جديدة. ورأى باحث آخر أن هناك انصرافاً عن التفسير الجاد وعن علم العقيدة إلى بحوث ومسائل الإعجاز العلمي للقرآن، وهي بحوث سِحرية تارة، واعتذارية تارة أخرى. وقد لاحظ أحد المشاركين أن علوم الفقه ومسائله تحررت من الأصول، ومن بحوث القياس، ولجأت إلى فقه المقاصد والمصالح، وإلى العلوم المُساعدة التي تحتكم إليها في إصدار الحكم استناداً لاعتبارات جديدة ليس منها بحوث تنقيح المناط وتحقيقه. بينما رأى باحث آخر أن أصول الفقه التقليدية يمكن أن تُدرس كتاريخ، مثل سائر تواريخ العلوم، كما أنها ما تزال مفيدة جزئياً في مسائل الضبط والمقايسة أحياناً. لكن بخلاف الحيرة بشأن جدوى أو لا جدوى إصلاح أصول الفقه أو تجديده، ماكان هناك أحد مع علم الكلام، أو اللاهوت بتعبير المسيحيين، فالمعروف أن السلفيين يحملون عليه منذ قرون. وانضم إليهم التحديثيون الذين رأوا أن الاستدلال العقلي على صحة العقائد الدينية (الغيبية) غير ممكن. والمعروف أن الأستاذ المعروف محمد أركون يهاجم علم أصول الدين، وبخاصة الاتجاه الأشعري منذ عقود. إنما كان هناك من رأى أن علم الكلام ليس علماً للاهوت مثلما هو عند المسيحيين، أي ليس بحثاً في تجسُّد الإله أو تألُّه الإنسان. فلا شبه مطلقاً بين الله والإنسان ولا علاقة أنطولوجية. لذلك فإن علم الكلام ليس ميتافيزيقياً، بل هو بحث في تعقُّل الوجود الإلهي من خلال آثاره من جهة، وماهية علاقة الإنسان بالله من جهة ثانية، وهل هي علاقة رحمة وعناية أم علاقة عدل وحيادية، وما يزال لهذين المبحثين معنى كبير، رغم ضرورة تغيير الأساليب والبُنى. فالمعروف أن علماء الكلام تبنُّوا المنطق الأرسطي الذي يقول بالكُلّي، وتبنّوا الفيزياء الأرسطية في مسائل الجواهر والأعراض، وأصل خلق العالم. وما عاد شيء من ذلك صحيحاً، لأنهم اعتبروا أن علاقة الذات بالصفات مثل علاقة الجوهر بالعَرَض، كما أن الكُلِّي هو تجريد عن أفراد وجزئيات، والله سبحانه ليس كذلك. فما تزال هناك ضرورة لعلم الكلام كي تظل الحياة الإنسانية ممكنة في ظل الله من جهة، ولكي تستمر أحكام القيم في علائق الناس بعضهم ببعض. وفي الأزمنة الحديثة، تحدث كثيرون عن "علم كلام جديد"، وهم يعنون به تارة تجديد أساليب الاستدلال على وجود الله، ويعنون به حيناً آخر نوعاً من فلسفة الدين، ويريد فريق ثالث من وراء علم الكلام الجديد، أن يكون بحثاً في الوجود الأخلاقي للإنسان، وضرورة الدين لذلك. ما عرفتُ نشاطات رابطة العلماء المغاربة من قبل، لكنني عندما حضرتُ هذا المؤتمر اطّلعت على نشاطات سابقة لهم، ويدخل بعضها في الموضوع نفسه: موضوع تجديد علوم الإسلام. فالتأزُّمُ ظاهر في مناهج ومباحث تلك العلوم، إما بانصراف الجمهور عنها، أو بعدم قدرتها على التصدي للمستجدات بالفهم والتحليل والتشخيص والحكم. ولذا فهناك إقبال على الحزبيات والدوغمائيات التي يُوهِمُ بعضها بالعودة للقديم، ويوهم البعضُ الآخر باجتراح الحداثة والحديث. وقد حضر المؤتمر علماء من الرابطة، كما حضره عشرات من الأساتذة من المشرق والمغرب. كما كانت هناك نقاشات جادة، ترمي كلها إلى بلورة مناهج للمراجعة النقدية، والوصول إلى إصلاح وتجديد مناهج العلوم الإسلامية. وهذا هدف محمود ينبغي السعي إليه بشتى السُبُل المتاحة، أو نظل مترددين بين تغريبية مُلْغية، وإلغائية أصولية قاسية، ولا فائدة في هذا المنزع أو ذاك.