سوريا وتركيا: التجاذب بدل التنافر!
ترى سوريا وتركيا نفسيهما في قلب صراعات الشرق الأوسط، وتعمل كل منهما على إعادة قراءة وتعريف خريطة القوى والتحالفات فيه، بما يمكنها من التعامل والتفاعل مع متغيراته على نحو يحقق لها مصالحها. ومن ثم كانت وما تزال اتجاهات السياسة السورية والتركية وتحولاتها بصدد القضايا الإقليمية والعلاقات بدول الجوار، جزءاً من جهود كبيرة، إن في إطار التنافس أو في إطار التوافق في المنطقة. وهذا هو المحور الأساسي لكتاب الدكتور عقيل سعيد محفوظ حول عوامل التنافر والتجاذب في علاقات البلدين: "سوريا وتركيا... الواقع الراهن واحتمالات المستقبل".
يتألف الكتاب من 11 فصلاً توزعت في خمسمائة صفحة، تتناول الأبعاد المختلفة لعلاقات البلدية وتحولاتها؛ بداية من الحكم التركي لبلاد الشام، مروراً بسقوط الخلافة العثمانية، والاحتلال الفرنسي لسوريا، ثم مرحلة الحرب الباردة وما بعدها، وصولا إلى قيام حكومة حزب "العدالة والتنمية" في تركيا، وما أفضى إليه من تقارب جديد.
وكما يوضح المؤلف فإن تداعيات الحرب العالمية الأولى أعادت التفاعلات بين تركيا وفرنسا (كدولة انتداب على سوريا)، حيث اتفق الطرفان على ترسيم الحدود، وسلخا تدريجياً أراضي ضمت الحزام الشمالي لسوريا منذ ذلك الحين وحتى عام 1939. وقد دخلت العلاقات بين دمشق وأنقرة منذ ذلك الوقت وحتى نهاية القرن العشرين، مرحلة من التوتر متفاوتة الحدة، زادت فيها الهواجس والمخاوف المتبادلة. لكن اتفاق أضنة الأمني عام 1998 شكل "نقطة تحول" رئيسية في مسار العلاقات السورية التركية، إذ انتقلت من ذروة التوتر إلى "نقطة تقارب" تدريجي، ثم متسارع، وصولا إلى "الحوار الاستراتيجي" الذي كان من نتائجه تفكيك عدد من عقد الحرب الباردة بينهما، وكذلك عُقد وأزمات الحرب المائية والمسألة الكردية، ومن ثم الدخول في اتفاقات اقتصادية وإعلامية وثقافية وسياحية. ثم دخلت تركيا كوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل عام 2008، وأشار موقفها الإعلامي والسياسي من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إلى تقارب ملحوظ في الرؤية بينها وبين دمشق.
ويتفحص الكتاب عوامل التنافر والتجاذب في العلاقات السورية التركية وفق أربعة مستويات: البيئة العالمية، والبيئة الإقليمية، والبيئة الثنائية، وأخيراً البيئة الداخلية. فقد تغيرت النظرة لتركيا بكيفية جعلتها أقل اندماجاً في الغرب. وإن لم تطرأ تغير فيما يخص لواء الأسكندرونة مثلا، فقد حصل تقدم مهم في موضوع أمن الحدود ونفاذيتها. كما أن الدولتين باتتا تتعاملان بسلوك وخطاب أكثر قدرة على تجاوز عقد السياسة بينهما، بل تتقارب رؤاهما في النظر إلى النظام العالمي باعتبارهما من الدول النامية. لكن في المقابل يبدو النظام العالمي منظوراً إليه من الجانبين مختلفاً، إذ فقدت سوريا حليفها الاستراتيجي، وخسرت تركيا بعض الأهمية النسبية لموقعها الجيوبولوتيكي في مواجهة الاتحاد السوفييتي. كما أن توترات الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط أعادت إلى دائرة الاهتمام مشكلات لواء الأسكندرونة والموصل ومناطق التخوم وترسيم الحدود.
ثم يحاول المؤلف قراءة التأثير التقاربي للبيئة الإقليمية في العلاقات السورية التركية، وهو تقارب -كما يقول- ليس محكوماً بإرادة قصدية، بقدر ما هو موجه بحركية الظواهر الفعلية التي تدفع من حيث النتيجة إلى التقارب.
لقد تشكلت سوريا وتركيا الحديثتان في مجال جغرافي وتاريخي وثقافي متقارب، مما قلل مخاطر التوتر بينهما. كما أن التغيرات الإقليمية ركزت على "احترام" الحدود السيادية للدول، وأسهمت الرؤى الجديدة للجغرافيا في خلق مزيد من الاستعداد لـ"حلحلة" مشكلات الحدود العالقة وضبط الخلافات الكامنة. وإلى ذلك فقد أسهم أيضاً إنكفاء الأيديولوجيات القومية، وظهور "الإسلام السياسي" كهاجس مشترك للدولتين، والمعاني الردعية لنسق القوة... في إحداث تقارب بين السياسات الإقليمية والثنائية للدولتين، بل في الميل المتزايد نحو سياسة الاعتماد المتبادل.
أما في نطاق عوامل التنافر فإن سوريا وتركيا تتنافسان على تحديد السياسة الإقليمية، وهي سياسة تأثرت بالتراجع المأساوي لتجليات الظاهرة القومية، دون أن تعكس بوضوح مستويات القوة لدى الدول. وقد دفع تعاكس الرؤى بين "العثمانية الجديدة" و"سوريا الكبرى"، أو احتواء سوريا وتطويق تركيا، أو التحالف مع إسرائيل والتحالف مع إيران... دفع العلاقات السورية التركية إما إلى التجاهل أو إلى التباعد، وبالتالي تأجيل البت في القضايا البينية المباشرة، أو إثارتها بالتوازي مع الانخراط في سياسات الاحتواء والاحتواء المتبادل.
وفيما يخص البيئة البينية، يوضح المؤلف أن التوتر في العلاقات بين سوريا وتركيا تأسس على مسار طويل ومتراكم من السياسات العدائية التي تأسست بدورها على عدد كبير من عوامل التنافر، مثل الذاكرة التاريخية، والنزاع على الجغرافيا، والموارد المائية، والأكراد، والسياسة الإقليمية.. إلخ. لكن رغم ذلك فإن العلاقة بين الدولتين لم تشهد تحولا نوعياً في السياسة من شأنه أن يؤدي إلى استخدام العنف المسلح ومن ثم اندلاع حروب صغيرة أو كبيرة بينهما. لذلك لم يكن عسيراً على بعض التطورات الداخلية متمثلة في وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى الحكم في تركيا، والرئاسة الشابة في سوريا، إطلاق مرحلة من الانفتاح المتبادل وصولا إلى حوار وتعاون أكثر عمقاً.
وعلى ضوء ذلك يرجح المؤلف إمكانيات السيناريو التقاربي بين سوريا وتركيا، خاصة أن ثمار التقارب بدأت تنعكس على العلاقات البينية والتفاعلات الإقليمية، كما أثمرت قدراً من الطمأنينة لدى الجمهور الذي أمسى تواصله أفضل وأكبر بكثير مما كان عليه الحال في السابق.
محمد ولد المنى
الكتاب: سوريا وتركيا... الواقع الراهن واحتمالات المستقبل
المؤلف: د. عقيل سعيد محفوظ
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
تاريخ النشر: 2009