مكانة العقل في الإسلام
يمثل العقل في القرآن الكريم موضوعاً أساسياً. ذكر 49 مرة. وأكثر الصيغ تكراراً (أَفَلا تَعْقِلُونَ) مما يدل على استهجان من لا يعقل ولا يحسن استخدام العقل، ثم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) مما يدل على التمني بأن يعقل الإنسان، ثم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) صيغة الشرط التي تدل على أن العقل ممكن الاستعمال، وهو أيضاً ممكن الاستعمال بالنسبة للنظر في تاريخ الأمم السابقة والحوادث الماضية. وهو يرتبط بالبرهان والدليل والنظر والبصر والفؤاد والقلب أي كل ما يتعلق بملكات الإدراك وقوى المعرفة.
أما من حيث المضمون، فيرد الأمر بالتعقل لكلام الله ثم لليوم الآخر ولآيات الله في الكون، ثم لما يحدث في العالم من وقائع ولما في المجتمع من أحداث. وهو تعقل أيضاً للأفعال، وللوصية التي يكتبها الإنسان. فالعقل له موضوع خارجه أو أمامه وليس مجرد تعقل ذاته من أجل فهم معاني الكلام الشفاهي أو المدون أو الظواهر الاجتماعية والطبيعية.
وفي السُّنة الشريفة ورد لفظ "عقل" ومشتقاته مثل عقال أكثر من مائتي مرة. ربعها تقريباً بالمعنى الاشتقاقي وهو الربط مثل عقل البعير. والمرات الأخرى بمعنى الفهم والمسؤولية. ويكون العقل أيضاً لكلام الله وآياته. وهو مرتبط بالشهادة وبوضع المرأة وبالدية. ويكون العقل كذلك للصلاة أي لفهم مقصدها ومغزاها. وهو أساس التكليف الذي يُرفع عن الصبي حتى يعقل. وهو ملَكة للإنسان دون الحيوان والجماد. وهو الذي يعطي الشهادة صدقها. يأتي ويذهب، ويوجد ولا يوجد. ويتفاوت فيه الناس.
وقد تم تصنيف العلوم في الحضارة الإسلامية بناء على قسمة العقل والنقل. فالعلوم إما عقلية نقلية مثل الكلام والفلسفة والأصول والتصوف، أو علوم نقلية خالصة مثل القرآن الكريم والحديث الشريف والتفسير والسيرة والفقه، أو علوم عقلية خالصة مثل العلوم الرياضية، الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، أو العلوم الطبيعة مثل الكيمياء والطبيعة والطب والصيدلة والنبات والحيوان والمعادن.
وقد تجلت معاني العقل في علم الكلام خاصة عند المعتزلة عندما جعلوا العقل أساس النقل حفاظاً على التنزيه ودرءاً للتشبيه. فاليد تعني القدرة، والعين تعني العلم، والاستواء يعني العظمة. وجعلوا الحسن والقبح العقليين ضمن قواعد العدل مثل خلق الأفعال وحرية الاختيار بين الحسن والقبيح. وجعلته الأشاعرة أيضاً دليلا يقينياً يعادل عشرات من الأدلة النقلية الظنية لأنها تخضع للتأويل. وقالوا بالواجبات العقلية، ومنها شكر المنعم، والتكليف، والخلق. وقد ثنى الله بالوحي لأن الله جواد كريم، يعطي من فضله للناس.
وقد تجلى العقل أيضاً عند الفلاسفة عندما جعلوا المنطق آلته، وآلة العلوم كلها. وجعلوا القياس مصدراً من مصادر العلم. فهو أساس العلم النظري الاستدلالي. ويقينه في البرهان. الإنسان العاقل هو الحكيم الفيلسوف الذي يترأس "المدينة الفاضلة". والعقل الخالص يستعمل البرهان والنقل يعتمد على قياس الغائب على الشاهد. الأول يخاطب الخاصة والثاني يتوجه إلى الجمهور. لذلك أعجب الحكماء بالفلسفة اليونانية، وعظموا سقراط وأفلاطون وأرسطو. وجعل "إخوان الصفا" صدق الشريعة اتفاقها مع العقل. وكتب ابن طفيل سيرة "حي بن يقظان" الذي استطاع بعقله أن يصل إلى كل حقائق الوحي. فالعقل والوحي طريقان يوصلان إلى نفس الحقيقة، منهجان متوازيان يؤديان إلى النتيجة ذاتها.
وعلى رغم أن التصوف أقرب إلى علوم الذوق منه إلى علوم النظر فإنه بعد أن تحول إلى فلسفة إلهية اعتمد على العقل كما وضح في حكمة "الإشراق" عند السهروردي فأعلى درجة هو التوغل في البحث أي في الذوق والنظر، في الكشف والاستدلال. ونقد المنطق الأرسطي الصوري ووضع منطقاً كشفياً ذوقياً إسلامياً جمعاً بين الذوق والنظر.
وفي علوم التفسير، تجلى العقل في التفسير بالمعقول في مقابل التفسير بالمنقول تأكيداً لروح القرآن الكريم في التعقل وطلب البرهان. وكان الزمخشري في "الكشاف" يمثل التفسير بالمعقول في حين كان الطبري وابن كثير يمثلان التفسير بالمنقول اعتماداً على الرواية. فأمكن تخليص التفسير من الإسرائيليات والأساطير العربية القديمة حول الأصنام وظهرت عقلانية الإسلام وتميزه على غيره من الديانات.
وفي علم مصطلح الحديث كان الاتفاق مع العقل وبداهاته ومجرى العادات وطبائع الأمور أحد شروط التواتر مثل الاتفاق مع الحس، والتواتر هو الخبر اليقيني على عكس الآحاد، الخبر الظني. فالعقل هو الذي يعطي اليقين للخبر. وعرفت الحضارة الإسلامية بأنها واضعة علم نقد الروايات.
وفي علم الفقه، العقل أساس التكليف أيضاً، فلا يجوز تكليف الصبي أو المجنون. والعقل هو المخاطب بالأمر. العبادات لها حكمة. وأركان الإسلام لها معنى. والمعاملات لها نسق. لذلك أتت المذاهب الفقهية الأربعة تعبيراً عن بنية العقل بأبعاده المختلفة. إذ تقوم الحنفية على العقل النظري والمالكية على العقل المصلحي، والشافعية على الجمع بين العقل والمصلحة، والحنبلية على العقل النصي الذي يلتزم بالنص كأمان من الهوى. لذلك جعل الفقهاء العقل والنقل صنوين كما كتب ابن تيمية في "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول".
وفي علم السيرة الحديث حاول كتاب السيرة مثل طه حسين في "على هامش السيرة" ومحمد حسين هيكل في "حياة محمد" و"في منزل الوحي" كتابة سيرة إنسانية خالصة لحياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، تقوم على العقل والبداهة بعيداً عن الخيال الشعبي والقصَص التاريخي خاصة في مواجهة هجوم المستشرقين على الجوانب التي يعتبرونها خيالية في التراث الإسلامي، ودون إحساس بالدونية أمام الثقافة الغربية العقلانية الإنسانية.
وفي معظم الحركات الإصلاحية الحديثة تم التركيز على العقل مثل محمد عبده في "رسالة التوحيد" عندما استعاد الحسن والقبح العقليين، وجعله قادراً على الإدراك. واعتمد عليه الأفغاني لإدراك سنن الله في الكون، قوانين الطبيعة والتاريخ. كما استرجعه الطهطاوي قارئاً إياه في التراث العقلاني الغربي عند فلاسفة التنوير في القانون الطبيعي وهو قانون الفطرة في الإسلام. فالقانون يقوم على العقل كما يقوم على المصالح العامة، لا فرق بين المعتزلة في الحسن والقبح العقليين وبين مونتسكيو في "روح القوانين". كما ركز عليه زكي نجيب محمود في "المعقول واللامعقول" جاعلا إياه قرين العلم وحقوق الإنسان.
إن اتهام المستشرقين منذ القرن التاسع عشر وسيادة النظرية العنصرية التي تقسم الحضارات والشعوب إلى نوعين، عقلية وأسطورية، علمية وسحرية، حضارية وبدائية، آرية وسامية، جعلت المصلحين يبرزون دور العقل في التراث الإسلامي وكيف قامت الحضارة الإسلامية على العقل والعلم. لذلك ازدهرت العلوم الرياضية والطبيعية. واكتشف المسلمون الجبر، وحساب اللامتناهي. عرف المسلمون حساب الهند، وهندسة اليونان، وشرحوهما ثم أبدعوا فيهما ونقل الغرب عنهم في العصر الوسيط. وأصبحت الرياضيات والعلوم الطبيعية إحدى المراحل المهمة في تاريخ العلم.
وفي هذا العصر الذي يسوده النقل في مناهج التعليم، والتقليد في مناهج التفكير، يبرزون العقل من أجل التحول من النقل إلى العقل، ومن النقل إلى الإبداع كما فعل القدماء. ما زال النص لدى بعضنا سلطة مكتفية بذاتها أعلى من سلطة العقل مع أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يعتمد على العقل والقدرة على المحاجة.
وبدلا من الشعور بالدونية أمام الغرب العقلاني العلمي وتقليد عقلانيته بحدودها، صوريتها وماديتها وفصلها عن القيم وفرديتها وأحياناً حتى انعزاليتها، ينبغي إبراز دور العقل في الحضارة الإسلامية. فيقارن عقل بعقل. عقل كلي إسلامي وعقل تجزيئي غربي، عقل قيمي إسلامي، وعقل صوري. فالعقلانية تراث إنساني عام يتجلى في كل حضارة. كونفوشيوس عقلاني بالنسبة للدين الصيني القديم. وبوذا عقلاني بالنسبة للدين الهندوكي القديم. وفلاسفة اليونان عقلانيون بالنسبة لأشعار هوميروس وهزيود. والإسلام وهو آخر مراحل الوحي عقلاني، يقوم على الإقناع (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وعلى النظر في سنن الكون (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا).
والمجتمعات الكلامية الحالية في حاجة إلى "تعقيل"، تعقيل الحياة العامة وترشيد التعليم وأداء الحكومة وحركة المرور، ولماذا يبقى الغرب وحده أهل "التنظير"؟ إن العقلانية دليل على التحضر، والرأي والرأي الآخر، والحوار المتكافئ بين الأطراف، والبعد عن الميل والهوى. يزهو الغرب بثورة الاتصالات وتنظيم المعلومات ونحن ننقل عنه. العقل في حياتنا المعاصرة هو القدرة على ربط الأسباب بالمسببات في عالم تسوده الحكمة وليست الأهواء.