فجأة وجدت كندا نفسها في دوامة أزمة دبلوماسية غير متوقعة بينها وبين كل من الأردن وإسرائيل. سبب الأزمة مخطوطات عمرها أكثر من ألفي عام كانت محفوظة في المتحف الوطني في القدس، عندما كانت المدينة تحت الإدارة السياسية الأردنية. ولكن في عام 1967 عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية بما فيها القدس، استولت على محتويات المتحف بما فيها مجموعة المخطوطات الدينية. فما هي قصة هذه المخطوطات؟ وما هي أهميتها؟ كان محمد الذيب يرعى قطيعاً من الماعز في السفوح المطلة على البحر الميت عندما افتقد إحدى عنزاته. أخذ يبحث عنها طويلا إلى أن اكتشف أنها وقعت في كهف منخفض، فرشقها بالحجارة حتى تعود إلى القطيع. لم يصب الحجر العنزة. ولكنه أصاب موقعاً آخر فكسره. سمح محمد الذيب صوت أوانٍ تتكسر من جراء رمي العنزة بالحجارة، فتوجه نحو مصدر الصوت فوجد مجموعة من الجرار معظمها محطم، وكانت كل جرة تحتوي على لفائف من القماش. حمل محمد الذيب بعض الملفات من الجرار بمساعدة راعٍ آخر إلى إمام مسجد صغير في سوق بيت لحم. كان ذلك في فبراير 1947. اطّلع الإمام على الكتابات فقال إنها ليست عربية، ولكنه أكد أنها لابد أن تكون قديمة جداً، ونصح الراعيين بعرضها على أحد تجار القطع الأثرية في المدينة ويدعى خليل إسكندر شاهين الملقب بـ"كندو" وهو من السريان. حمل "كندو" خمس لفائف من الجرار إلى تاجر سرياني آخر اسمه جورج شعيا الذي نقلها بدوره إلى دير مار مرقس السرياني في مدينة القدس. في الدير اكتشف المطران أثناسيوس أن الكتابة ليست سريانية بل آرامية. وطلب شراءها. حمل الراعيان اللفائف إلى الدير، ولكن أحد الكهنة اعترضهما ورفض السماح لهما بدخول الدير بحجة أن اللفائف مهترئة وألا قيمة لها فعادا أدراجهما. ولما علم المطران بالأمر سارع إلى الاتصال بإمام المسجد بحثاً عن الراعيين اللذين اختفت آثارهما. بعد مرور أسبوعين فوجئ "كندو" بالراعيين يسألان عنه لاسترجاع الملفات الخمسة التي سبق أن تركاها عنده. فسألهما عن الملفات الأخرى التي احتفظا بها، فأبلغاه انهما باعاها إلى شخص أجنبي (هو الدكتور سكنيك أستاذ الآثار في الجامعة العبرية). نقل تاجر الآثاريات الراعيين إلى المطرانية حيث استجوبهما المطران لمعرفة المكان الذي وجدا فيه الجرار، ودفع لهما ثمن اللفائف الخمس، بعد أن تبين له أن ثلاثاً منها كانت تشكل سفر أشعيا مكتوباً باللغة الآرامية. حمل المطران المخطوطات سراً إلى سوريا وأطلع عليها البطريرك وكان في مقره في مدينة حمص. وبالاتفاق مع البطريرك أوفد رسولا خاصاً إلى بيروت لاستشارة الدكتور أنيس فريحة الأستاذ في الجامعة الأميركية، والخبير في الدراسات الشرقية. ويروي فريحة ما حدث فيقول: "نظرت في المخطوطات وإذ بي أمام كتابة عبرية وقد تبينت كلمات مقتطعة هنا وهناك ولكني لم أستطع أن أقرأ فقرات طويلة. فاللغة عبرية وقد تكون مخطوطة سفر من أسفار العهد القديم". وهكذا بدأت قصة مخطوطات البحر الميت. فقد قامت بعد ذلك فرق من الاختصاصيين للبحث في مغاور خربة قمران حيث عثرت على عشرات الجرار الفخارية التي تضم مجموعات كبيرة منها احتُفظ بها كلها في متحف القدس الذي سقط تحت الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967، ومنذ ذلك الوقت انقطعت الصلة بين المراجع العربية والمخطوطات التي احتفظت بها إسرائيل وأبقت بعضها سراً مكتوماً حجبته حوالي نصف قرن عن العالم. وفي عام 1986حاول علماء اختصاصيون في أوروبا والولايات المتحدة الاطلاع على المخطوطات لترجمة محتوياتها. إلا أن إسرائيل رفضت، ولم تسمح بذلك إلا بعد خمس سنوات من الجهود الدبلوماسية والأكاديمية والإعلامية التي بذلتها عدة مراجع دولية. فقد صورت إسرائيل المخطوطات وأرسلت نسخاً من الصور بواسطة الفاكس إلى الولايات المتحدة. قام العالمان روبرت إيزمان وم. وايز بوضع كتاب حول هذا الموضوع صدر في نهاية عام 1992 بعنوان: "الكشف عن مخطوطات البحر الميت". يؤكد الكتاب أن المعلومات التي استخرجها المؤلفان من المخطوطات ليست مهمة فقط ولكنها مذهلة بالنسبة لمؤرخي الحقبة المسيحية الأولى. فعلى رغم صعوبة تحديد تاريخ محدد لهذه المخطوطات فإن العلماء يعتقدون أنها كتبت خلال المئة سنة على الأكثر قبل أو بعد ولادة السيد المسيح. وإن مجتمع قمران حيث عثر عليها كان مجتمعاً يهودياً متطرفاً ومسلحاً؛ هو مجتمع الماكابيين الذين كانوا متمردين على الإمبراطور الروماني هيرودوس وعلى الفريسيين. لقد صدر حتى الآن أكثر من أربعة آلاف كتاب حول مخطوطات البحر الميت. إلا أن جزءاً كبيراً من هذه المخطوطات بقي خارج التداول العلمي بقرار إسرائيلي. ومن المؤكد أن إسرائيل لم ترسل إلى الولايات المتحدة صوراً عن كل المخطوطات المكتوبة باللغة الآرامية، ولا هي عرضتها كلها في متحف أوتاوا بكندا. فماذا في هذه المخطوطات؟ تتحدث المخطوطتان رقم 534 و 536 اللتان عثر عليهما في الكهف الرابع في قمران، عن نوح عليه السلام. ويصف المخطوط نوحاً بأنه الصدّيق الأول، وأنه ولد كاملا حتى أن الحاخامين اليهود يقولون إنه "ولد مطهراً". ويصف النص نوحاً بالحكمة وبأنه كان يعرف كل الأسرار ومنها تحديداً سر الصعود إلى السماء وملائكة السماوات العلى. وتقول المخطوطة إن تعاليم نوح عليه السلام كانت تحرم شرب الدم وتقديم القرابين للتماثيل المؤلهة (الوثنية)، كما كانت تحرم الزنى وأكل الحيوانات المخنوقة أو النطيحة. ويستشهد العالِمان إيزمان ووايز في كتابهما (ص 34 ) بالآية القرآنية: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ويلاحظ الكتاب أن تشريعات نوح هذه تلزم كل بني الإنسان من الصديقين، وأنها ترد ثلاث مرات في إنجيل يوحنا وفي النصوص اليهودية، كما تعتبر بمثابة "تنظيم غذائي" قرآني. وفي المخطوط رقم 251 (قمران الكهف الرابع ) نقرأ ما يلي: السطر الثاني: على الرجل ألا يتزوج من شقيقته، أو من شقيقة والده أو من شقيقة والدته. السطر الثالث: على الرجل ألا يتزوج من شقيقة أخيه أو من شقيقة أخته. يجب عليه ألا يكشف عن عري شقيقة والده أو شقيقة والدته. ويجب ألا تعطى امرأة إلى شقيق والدها، أو إلى شقيق أمها لتكون زوجة له. إن هذه التحريمات لا يلتزم اليهود اليوم بمعظمها. فالمرأة تتزوج خالها أو عمها... الخ، خلافاً لما نصت عليه التعاليم اليهودية كما تؤكدها هذه المخطوطة. وقد جاء القرآن الكريم ليؤكد هذه التحريمات بوضوح تام في سورة النساء (الآيتان 22- 23). وفي إشارة إلى الشيطان ورد في المخطوط رقم 471 / (قمران الكهف الرابع ): إن الشيطان يوسوس للناس ويتخفى كملاك من نور ساخراً من أتباعه. إلا أن الله سيقضي بين الناس بالعدل على قاعدة من أحسن عملاً فلنفسه. ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد. ولعل من أكثر الأمور المثيرة التي وردت في المخطوطات قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها. فمن المعروف أن السورة الثانية من القرآن الكريم بعد سورة الفاتحة هي سورة البقرة. وفي المخطوطتين رقم 277-276 ( قمران - الكهف الرابع) تروى القصة بما يتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم. ومن الأمور المثيرة أيضاً ما ورد في المخطوطة رقم 297 (قمران الكهف الرابع) حول "أبناء الفجر "، وهم من المتبتلين الذين يقضون الليل في الصلاة والتعبد في محاولة منهم لفهم "حدث الخلود"و"التفكير في الماضي"، كما ورد في السطرين التاسع والعاشر من المخطوطة. وقد ورد ذكر هذه المجموعة في "وثيقة دمشق" من المخطوطات. ووردت إشارة بيّنة عنهم في القرآن الكريم حتى أن السورة 89 من القرآن الكريم سميت "سورة الفجر". ويلاحظ الكتاب (ص 163) أهمية هذه الإشارة القرآنية. وفي الواقع فإن هذه السورة تقدم عبراً من الماضي عن قوم عاد وثمود وفرعون الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد. كما تقدم صورة عن الخلود يوم تدك الأرض دكا وترجع النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية. وهناك إشارة قرآنية أخرى لها دلاتها. فالقرآن الكريم يقول: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً). وتطلق المخطوطة عليهم اسم أبناء الحق، أو أبناء الصدق. وهم يتبعون -نظام "الماسكيل"- وهو نظام احترام التشريع والالتزام به حتى قيام المسيح ويعقوب في آخر الزمان وتفقده للأرض. وهذا النظام يعلم "أبناء النور" (أو أبناء الفجر) طريق النور وكيف يمكن أن يحشروا مع الصالحين. ومن الأمور المثيرة كذلك موضوع "شجرة الشر" -طعام أهل النار- الذي ورد في المخطوطة رقم 458 (قمران - الكهف الرابع ). وفي هذه المخطوطة إشارة إلى الملائكة الذين يعملون على تنفيذ العقوبات في جهنم بحق المذنبين. ويلاحظ الكتاب(ص 47) كيف أن صور الحريق وألسنة النار وعذاب الحريق ترد في القرآن الكريم بشكل مماثل، وفي عدة مواضع. ويشير المخطوط رقم 529 (قمران - الكهف الرابع ) في السطر الرابع إلى الملاك جبريل، وتعتبر هذه الإشارة مهمة جداً في حد ذاتها لأمرين أساسيين. الأمر الأول هو أن جبريل هو الذي لقن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام نصوص القرآن الكريم. والأمر الثاني هو أن الإشارة إلى الملاك جبريل في المخطوط 529 تقع في إطار مهمة تلقين تعليمات الله ووصاياه. يذكر الكتاب (ص 73) أن التقاليد المسيحية تشير إلى جبريل على أنه "روح القدس"، ويذكر القرآن الكريم في الآية 87 من سورة البقرة: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). تدلّ هذه الإشارات المختصرة إلى أهمية هذه المخطوطات، ليس فقط من حيث إنها ثروة تاريخية كبرى، ولكن من حيث إنها فوق ذلك ثروة معرفية تؤكد "وحدة الدين وتعدد الشرائع". ومن أجل ذلك تحتفظ إسرائيل بسرية مضمون بعض المخطوطات.. التي قد تكشف عن زيف الانحرافات وعن التوظيف السياسي للدين.. ولذلك لم توافق على الكشف إلا عن بعضها، وهي في الأساس لا تملك لا حق الكشف ولا حق المنع، لأنها لا تملك حق مصادرة هذه المخطوطات التي هي جزء من ثروة القدس العربية المحتلة.