المثقفون بين الفكر والواقع
أصبحت مؤتمرات المثقفين شائعة ومتكررة، أكثر من مرة في العام، منافسة بين مؤسسات الدولة الثقافية بين القاهرة والإسكندرية. يجدون أنفسهم محاصرين، بين انشغالات النخبة وهموم الجماهير، بين التكيف مع الواقع السياسي وهموم الواقع اليومي، بين الدولة التي تشعر بأنها في فراغ، والشعب الذي يشعر بغياب بعض أجهزة الدولة في حياته العملية. وقد يشعر بغيابها في حالات الكوارث، الوباء، الفقر، البطالة، الغلاء، تدني الأجور.
والحاضرون هم أنفسهم في القاهرة أو الإسكندرية، إما ينتقل القاهريون إلى الإسكندرية أو العكس. هم أنفسهم تقريباً بين القلة والكثرة، بين الصداقات الشخصية والاختيارات الموضوعية، بين المستقلين عن المؤسسات أو المرتبطين بها ممن يعملون معها أو يحومون حولها. وهناك المحايدون بلا موقف والذين ظلت الثقافة لديهم حرفة أو مهنة وليست قضية أو رسالة. يعرف بعضهم بعضاً، ويسرُّون باللقاء معاً، لمدة يومين، أو أقل أو أكثر.
ولا يوجد جدول أعمال معلن أو أوراق مقدمة للنقاش. بل هي مجرد ساحة فكرية للحديث الشفاهي لطالبي الكلام، وما أكثرهم، بأولوية الطلب. وهو ما يتجاوز الوقت المحدد لجلسات المؤتمر. والأسئلة تتكرر، والموضوعات تتشابه. فالهموم واحدة باعتبارهم مواطنين، يجمعهم وطن واحد. إنما الغرض غير المعلن هو إخراج بعض مؤسسات الدولة عن عزلتها بالارتباط بقواعدها. وتفريغ الهم داخل القاعات المغلقة. وهو أسلوب جديد في العمل السياسي غير المباشر يخلقه قطاع من النخبة، يد مع النظام ويد مع الناس، بخطاب مزدوج يلقى الترحاب من الطرفين، وهو موضع ثقة أيضاً من الجانبين. هي مدرسة إعلامية لا تغضب النظام. وفي الوقت نفسه تحظى بقبول الجماهير على مستوى القول. وتلقى قبولا في الآذان وفي النفوس. تجمع بين الحسنيين. وتستفيد من الطرفين، بالإضافة إلى عمق الصداقة لأغلبية المثقفين الذين ليس لهم موقف واضح مع الحاكم أو المحكوم.
ويتوالى على مثل هذه المؤتمرات جدول أعمال طبقاً للخطاب المزدوج الذي يلبي احتياجات المحكومين. فقد تتابعت مؤتمرات المثقفين حول الإصلاح. وهو لفظ مقبول مثل النهضة وغير مرفوض. فلا أحد يرفض حركة الإصلاح الحديثة عند الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين. ولا أحد يرفض حركة النهضة التي بدأها الطهطاوي وعلي مبارك وطه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد. وتتوقف عند الليبراليين القدامى أو الجدد، بتنظيماتهم وقادتهم وجرائدهم. وبعد الإصلاح تأتي الديمقراطية في عدة مؤتمرات في خطابات للاستهلاك المحلي، ونداءات داخل القاعات.
وفي هذه المرة يأتي دور التخطيط الثقافي، عرض كشف حساب للعام المنصرم ووضع برنامج نشاط العام الجديد. وكانت أهم إنجازات العام المنصرم المكتبة الرقمية التي تجاوزت المليون كتاب بتعاون رئيسي جمهورية فرنسا وجمهورية مصر، وإخضاع الخطاب العربي إلى قواعد لغة الأمم المتحدة UNL في الضبط والإحكام من أجل التخلي عن الإطالة والإنشائية. فالآلة تستطيع ما لا يستطيعه الكاتب المبدع. فتحول "الكمبيوتر" إلى سحر جديد بدلا من السحر القديم في ثقافة ما زالت في بعض أوجهها سحرية، بهذه الدرجة أو تلك. وهو ما يثير الإعجاب. وتكاثرت الأسئلة التي احتاجت إلى يومين لإعلانها. فهي فرصة للمثقف الهامشي للظهور. وطال وقت المتحدثين دون أن تكون هناك فرصة كبيرة لاستماع الردود. وغاب الخطاب الثقافي وحل محله الصراخ، والتعبير عن هموم الواقع المأساوي في التعليم ونظمه والجامعات وعدم قدرتها على البحث العلمي. وفي المجمل فقد غاب الواقع الاجتماعي عن الإنجازات الثقافية في العام الماضي من المنصة. وحضر بقوة في القاعة. وظهر التباين بين الثقافة النظرية والواقع العملي. وهي الثنائية التي طالما عانت منها النخبة والجماهير على حد سواء.
كل ذلك مقبول ومعروف، مكرر ومتوقع، لا جديد فيه، ولا أمل منه. إنما الجديد كان هو استعمال بعض المؤسسات الثقافية ومؤتمراتها كباب خلفي لتحقيق شيء آخر، غرض غير معلن، ترفضه النخبة والجماهير معاً، وربما يحظى بقبول صريح لدى النظام السياسي. فقد تكلم أحد المثقفين المرموقين وأساتذة الفلسفة الكبار دون طرح سؤال معين عن خطورة الدولة الدينية، وأن الحل هو العلمانية. وهو خطاب مكرر ومعروف لديه. يعيش منه، ويلقى قبولا في الدوائر الغربية لأنه موجه ضد الإرهاب والعنف والتخلف، دفاعاً عن العقلانية والتسامح والمواطنة والدولة المدنية. ولا أحد يجادل طبعاً في أهمية مواجهة الظواهر الهدامة كالتطرف والعنف والإرهاب. ولكن، لم يثر التعليق أي ردود فعل خاصة، فمضى وكأنه رأي مثل باقي الآراء. وفي اليوم التالي لاستكمال باقي الأسئلة التي طالت أعلنت المنصة أنه سيختتم الأسئلة "وختامه مسك" دون تبرير واضح لماذا يتكلم مرتين، والوقت محدود للغاية. فقام وأعلن موقفه من جديد بأن الخطر هو الدولة الدينية مع مزيد من التفصيل، الإسلامية، والمسيحية واليهودية، وأن الحل هو العلمانية ودون أن يشير إلى خطورة الدولة الصهيونية في إسرائيل أو إلى "المحافظين الجدد" والمسيحية الصهيونية التي سادت لدى الإدارة الأميركية السابقة. والنتيجة هي ضرورة عقد حوار بين العلمانيين في الدول الدينية الثلاث، خاصة بين العلمانيين المصريين والعلمانيين الإسرائيليين الذين يشتركون معاً في رفض الدولة الدينية. وهنا ضجت القاعة. ودافعت عنه المنصة باسم حرية الرأي للجميع مع الاستشهاد بالكلمة الشهيرة لفولتير وضرب المثل بما وقع في الولايات المتحدة من سماح القضاء للحزب النازي الجديد بالتظاهر ضد معارضة اليهود الأميركيين. ورفضت الرد عليه بحجة انتهاء الوقت على رغم مقاطعة أكثر من حاضر للمنصة للاعتراض. وهل يقبل العلمانيون الإسرائيليون بعودة إسرائيل إلى حدود يونيو 1967، والانسحاب من القدس الشرقية، وعودة اللاجئين، وفك المستوطنات، وسيادة الدولة الفلسطينية على مجمل أراضيها؟ وقد يكون الحل أيضاً هو الدولة الديمقراطية الواحدة التي يتعايش فيها الجميع بصرف النظر عن أديانهم وجنسياتهم وهو ما نص عليه الميثاق الوطني الفلسطيني قبل مدريد وأوسلو لصالح وعد الدولة الفلسطينية المزمع إنشاؤها، الذي ما زالت تتكاثف في طريقه العراقيل الإسرائيلية.
هل هو امتحان لمدى قبول المثقفين المصريين التطبيع؟ هل هو لعب في الوقت الضائع؟ هل هي محاولة لملء الفراغ السياسي؟ ربما هي سلسلة من الدوائر المغلقة، عوداً على بدء، والتحرك في المكان.