النيوليبرالية بين النظرية والتطبيق
يسعى كتاب "الدولة النيوليبرالية"، لمؤلفه "ريموند بلانت" أستاذ التشريع والفلسفة السياسية في كلية كنجز للقانون بجامعة لندن، والذي نعرضه هنا، إلى تقديم عرض تحليلي شامل للإدراك النيوليبرالي لدور ووظيفة الدولة في المجتمع المعاصر، وكذلك إلى تقديم تقييم نقدي لبعض العناصر المركزية المكونة لهذا الإدراك. ويتناول المؤلف التركيز النيوليبرالي على المقاربات الإيديولوجية لدور الدولة بدلا من التركيز على المحصلة النهائية لذلك الدور، وصلة الوصل بين الإيديولوجيا والمرتكزات الرئيسية لدور الدولة مثل حكم القانون، والعدالة، والحرية، والحقوق الشخصية والعامة، وآليات السوق، ومؤسسات المجتمع المدني.
ويعيد المؤلف تشييد قضية النيوليبرالية بناء على تلك الاعتبارات المتعلقة بالمجتمع المعاصر، ومن خلال الاعتماد على كتابات المفكرين والفلاسفة الكبار للنيوليبرالية مثل "أوكيشوت"، و"نوزيك"، و"نوتبارد"، و"بوكان"... وهم الذين لعبت كتاباتهم دورا كبيرا في تطور فكرة النيوليبرالية. وفي هذا الجزء يركز المؤلف على نقطة مهمة بالنسبة للنيوليبرالية، وهي أنها لم تؤد إلى تقليص دور الدولة مقارنة بنفوذ السوق وآلياته، كما كان يتوقع، وإنما أدت إلى دولة سوق مترهلة متواجدة تقريبا في كافة مجالات المجتمع، وذات نفوذ متعاظم. ويرجع السبب في رأي المؤلف إلى أن رفع القيود التنظيمية عن الاقتصاد قد ترك الحرية للبنوك لتضارب وتقدم القروض دون ضمانات كافية، وتترك مدراءها يحددون لأنفسهم مرتبات وبدلات خيالية، ما أدى إلى تراكم هذا المزيج السام من الأصول الرديئة التي هددت النظام المصرفي برمته بالانهيار. في تلك الظروف لم يكن أمام الدولة سوى التدخل لإنقاذ الاقتصاد، وحماية المصارف من الانهيار عبر حُزم إنقاذ سخية. يقول المؤلف في هذا الجزء إن الأفكار "الريجانية" و"التاتشرية" المتطرفة بخصوص فتح الباب على مصراعيه وتكوين الدولة "الصغيرة" أي الدولة التي ليس لها سوى نفوذ محدود على الاقتصاد، قد أثبتت فشلها عمليا مما هدد النظام المالي الغربي بالسقوط، واضطر الدولة للتدخل بكامل قوتها.
ويقدم المؤلف ما يمكن اعتباره نقدا جوهريا للنيوليبرالية حيث يبين علامات التفكك على كل فكرة من الأفكار التي تكونها، وعلى العلاقات المنطقية بين هذه الأفكار، بحيث يستحيل تقريبا استخراج نسخة مقنعة من النيوليبرالية يمكن مقارنتها بالنظريات الأخرى كالديمقراطية الاشتراكية. ويعرض المؤلف موجزا لكبار مفكري النيوليبرالية مثل "أوكيشوت"، و"حايك"، و"نوزيك"، و"نوتبارد"، و"بوكانان"، ويخرج بخلاصة مؤداها أن الأفكار النيوليبرالية هي أفكار غير مستقرة بحكم طبيعتها، وأن كبار كتابها قد اختلفوا فيما بينهم بشأن العديد من أفكارها الأساسية: فالتشكك الذي يبديه "أوكيشوت" في بعض مبادئ النظرية، لا يشترك مع آراء "حايك" بشأن السوق كقاطرة التقدم الإنساني، كما لا ينسجم مع تركيز "نوزيل" المبالغ فيه على حقوق الأفراد.
ويرى المؤلف أنه من الخطأ البحث عن جسم منهجي متماسك للنظرية النيوليبرالية، لإن مثل هذا الجسم لم يوجد في أي وقت، وأنه لكي يقوم أي أحد بنقد النظرية الأيديولوجية يتوجب عليه بداية تفكيك هذه النظرية، ثم إعادة تركيبها من جديد.
والتهمة الرئيسية التي يوجهها المؤلف للنيوليبرالية أنه عندما يتم تطبيقها بحذافيرها في مجتمعنا المعاصر، فالنتيجة ستكون تهاويها وسقوطها الحتمي، كما رأينا في الأزمة المالية العالمية الأخيرة. فالقاعدة الأخلاقية التي تقوم عليها النيوليبرالية في رأيه هي اهتمامها بالحرية وبحكم القانون... في حين أن نفس المبدأ يمثل جوهر الديمقراطية الاشتراكية. ويرى المؤلف أنه ليس هناك فارق كبير بين النيوليبرالية والاشتراكية الديمقراطية إذ يرتبطان ارتباطا ديلاكتيكيا تمثل فيه الثانية نوعا من توليف المتناقضات التي تنطوي عليها الأولى. وفي نظره أن الدولة النيوليبرالية محكوم عليها بالتطور في اتجاه الديمقراطية الاشتراكية.
غير أن المؤلف يؤكد في نهاية كتابه أن ليس من الضرورة أن تكون المحصلة النهائية للأزمة المالية الحالية عودة الاشتراكية الديمقراطية... فإذا كان النظام المصرفي قد انفجر من داخله فإن حزمة الإنقاذ حولت أعباء البنوك وديونها السامة إلى الدولة. وفي ظرف كهذا فإن المحافظة على مستويات الإنفاق المرتفعة التي تتطلبها اقتصادات الرفاة والاشتراكية الديمقراطية، تغدو شيئا شبه مستحيل. صحيح أن النيوليبرالية والاشتراكية الديمقراطية مترابطتان ديالكتيكيا، لكن هذا الترابط في حقيقته يعني أنه عندما تنهار الدولة النيوليبرالية، تجر معها ما تبقى من الديمقراطية الاشتراكية أيضا.
ويستمد الكتاب أهميته من ارتباطه الوثيق بقضايا الساعة، خصوصا في سياق الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي أثارت الحديث مجددا عن دور الدولة في المجتمع المعاصر.
سعيد كامل
الكتاب: الدولة النيوليبرالية
المؤلف: رايموند بلانت
الناشر: أوكسفورد يونيفرستي برس
تاريخ النشر: 2009