بعد الهزة الاقتصادية التي شهدها العالم في السنتين الأخيرتين والتراجع الواضح في النمو العالمي خلال العقد الأخير، انطلقت العديد من المراجعات النظرية للأسس الفكرية التي قام عليها النظام المالي في البلدان الغربية واستوردته بكثير من الحماس الدول اللاهثة وراء ركبها والساعية للحاق بها. فما أن تهاوت الأسواق المالية في لندن ونيويورك حتى تبعتها نظيراتها في هونج كونج واليابان وموسكو وكثير من الدول النامية التي ربطت مصيرها بالعولمة المالية وحركة رؤوس الأموال والاستثمارات. لكن طبعاً ما أن حلت الأزمة وخيمت بأجوائها الثقيلة فوق الاقتصادات العالمية حتى تعالت الأصوات المنددة بالنظام المالي العالمي، منتقدة اقتصاد المضاربات والجري المحموم وراء تكديس الأرباح والاستثمارات العبثية. وظهرت مراجعات أكثر صرامة من الناحية الفكرية تسعى إلى تسليط الضوء على الأسس النظرية للاقتصاد العالمي في أبعاده الأخلاقية والاجتماعية في محاولة لتأمل مفهوم الليبرالية نفسه، ومن هذه الكتب "ما هي الليبرالية؟"لمؤلفته الفرنسية "كاثرين أودار"، أستاذة الاقتصاد بكلية لندن للاقتصاد. هذا الكتاب الذي تسعى "أودار" من خلاله إلى فتح نافذه نقاش حول الليبرالية باعتبارها النظرية أو الأيديولوجية الأكثر تعرضاً للانتقاد في هذه المرحلة لما يُنسب إليها من مسؤولية في التعجيل بالأزمة، لكن الطريقة التي اعتمدتها المؤلفة ابتعدت عن المسائل الإجرائية المغرقة في التفاصيل، مفضلة مراجعة تاريخية لتطور فكرة الليبرالية وتوضيح المنعرجات المختلفة التي مرت بها منذ انطلاقتها الأولى في أوروبا خلال القرن السابع عشر وما لحقها من تغييرات تصل أحياناً حد التناقض. فقد تلطخت سمعة الليبرالية مؤخراً بكل ما هو سلبي بسبب الاتهامات التي وجهت إليها في إطلاق فتيل الأزمة الاقتصادية وفشل نموذجها الذي روجت له الولايات المتحدة والعالم الأنجلوسكسوني عموماً في تفادي الأسوأ، بل كانت قبل ذلك محط انتقاد الأحزاب اليسارية في أوروبا والعالم، فضلا عن رفضها من قبل اليمين، كما هو الحال في أميركا لارتباطها في أذهانهم بأسطورة تقويض الأسواق وحريتها الذاتية في تنظيم نفسها والتي تصل في الولايات المتحدة حد التقديس، ناهيك عن انتقاد المحافظين لمفاهيمها على أساس أخلاقي مادامت الليبرالية في نظرهم تعزز قيم الفردانية وتكرس النسبية الأخلاقية. وبالنسبة للكاتبة لا توجد ليبرالية واحدة، ولا يمكن حصر الليبرالية في قالب جامد ظل ثابتاً طوال التاريخ، بل تعرضت الليبرالية للعديد من التغيرات والتحولات... مشيرة في هذا الصدد إلى أحد أبرز المنظرين الاقتصاديين في العالم، هو "كينز" الذي يُحتفى به كثيراً في الأوساط المناهضة لليبرالية باعتباره أحد أهم المنادين بتدخل الدولة في الاقتصاد. هذا المنظر الشهير كان في الحقيقة منتمياً إلى الحزب الليبرالي، لأن الليبرالية في نظره بقدر ما تعني حرية الأسواق فهي أيضا تعني إشراف الدولة على الاقتصاد، كما أن الشخص يمكنه أن يكون ليبرالياً بأكثر من معنى، وبأكثر من طريقة. ومن خلال كتابها الذي جاء توليفاً لنظريات المفكرين الاقتصاديين مع تركيز خاص على "جون رولز"، تعيد الكاتبة بناء تاريخ الليبراليات التي عرفها التاريخ، وهو ما يقودها إلى فتح قوس للتأمل في قضايا نظرية تتعلق بمستقبل التضامن الاجتماعي، والحيز الذي يحتله الدين في المجتمع، فضلا عن مفاهيم أخرى مثل التعدد الثقافي والديمقراطية. وفي هذا الاتجاه أيضا تتأمل الكاتبة كيف يتعاطى الفكر الليبرالي المعاصر مع مسألة الوطنية دون الانزلاق إلى نسخة منغلقة من مفهوم الأمة، وكيف يمكن لفكرة الديمقراطية التي تحتل موقعاً متقدماً في التصور الليبرالي أن تتفادى التجاذبات الشعبوية وتؤسس لممارسة سياسية ناضجة بعيدة عن الرهانات الضيقة للأحزاب السياسية الطامحة إلى السلطة! وبإثارتها لتلك الأسئلة والقضايا تتعدى الكاتبة الدراسة التاريخية لليبرالية إلى الدفاع صراحة عن نموذج الليبرالية الاجتماعية التي ينادي بها اليسار حالياً. فابتداء من القرن السابع عشر، تقول الكاتبة، فرضت الليبرالية نفسها كعقيدة تروج للحرية الفردية، ولحقوق الملكية الخاصة، ومراكمة الثروة لمواجهة الأنظمة الفيودالية المنغلقة في أوروبا، وكسر احتكار رأس المال... في وقت كان العالم يشهد فيه تحولات كبرى مع الاكتشافات الجغرافية، وتوسع النشاط التجاري، وظهور طبقة بورجوازية جديدة تدافع عن مصالحها وتضغط من أجل التمثيل السياسي.... لكن الليبرالية التي كانت وراء ظهور إرهاصات المجتمع المدني في القرن السابع عشر، بالإضافة إلى مؤسسات الدولة الحديثة المتحكمة في مقاليد الاقتصاد، بات يُنظر إليها في القرن التاسع عشر كعائق أمام توسع الأسواق بعدما حلت الثورة الصناعية وبدأت تتبلور ملامح مرحلة جديدة من التطور الرأسمالي الذي قاد بدوره إلى انقسام داخل الليبرالية نفسها؛ بين المدافعين عن المقاولة الحرة ورفع الدولة ليدها عن دفة الاقتصاد وبين المنشغلين بالمساواة والعدالة الاجتماعية. وبدا أن الليبرالية تتيح المجال لكلا الرأيين للتعايش، بحيث يمكن دحض الإيمان الراسخ في فضائل التسيير الذاتي للسوق وفي نفس الوقت الاستظلال بفيء الليبرالية. زهير الكساب الكتاب: ما هي الليبرالية المؤلفة: كاثرين أودار الناشر: جاليمار تاريخ النشر: 2009