أيضاً... السياسة غير الدين
الدين فيه أحكام ثابتة وأحكام متغيرة، والسياسة كذلك، غير أن متغيرات السياسة هي الأصل، والثابت الأكبر في السياسة هو أنّها ليست ثابتةً!
وحين نستعرض التراث الإسلامي وسيرة الصحابة الأولين نجد أنّنا إزاء تفريقٍ واضحٍ بين الدين والسياسة، فالأمثلة كثيرة والشواهد أكثر، والتصرّفات والأحكام تنبئ بحجم المسافة بين الدين من جهةٍ والسياسة من جهةٍ أخرى.
لقد خالف الصحابة والسياسيون منهم بشكلٍ خاصٍ كثيراً من النصوص الشرعية انحيازاً للمصلحة ووعياً بأنّ السياسة غير الدين، فحين جاء النص الديني بإعطاء المؤلفة قلوبهم سهماً من الزكاة، جاء السياسي عمر بن الخطاب فعطّل هذا السهم فكان قراره السياسي مخالفاً للحكم الديني، وحين جاء النصّ الديني بحدّ السارق، لحقه السياسي عمر بن الخطّاب، فعطّل حدّ السرقة في عام الرمادة، وعندما جاء النص الديني بقسمة الفيء بين المقاتلين، تعقّبه السياسي عمر بن الخطاب بمنع قسمة أرض السواد في العراق والشام بين المقاتلين مراعاةً سياسيةً لمصلحة الأجيال القادمة، وحين جاء النص الديني بعدم إيقاع الطلاق ثلاثاً مرةً واحدةً، جاء السياسي عمر بن الخطاب فأوقعه على الناس مراعاةً للمصلحة الاجتماعية، وعندما جاء النصّ الديني بالقصر في مشاعر الحجّ جاء السياسي عثمان بن عفّان فأتمّ أربعاً لمصلحة تعليم الأمّة، وهكذا فعل السياسي عثمان بضوالّ الإبل التي جاء النصّ بالنهي عن التعرّض لها، فكان يبيعها ويضع قيمتها في بيت المال حتى يأتي صاحبها فيعطيه ثمنها، وكذلك فعل السياسي علي بن أبي طالب، إلا أنّه لم يبع تلك الضوالّ وإنما جعلها في مربدٍ يصرف عليها من بيت المال حتى يأتي أصحابها.
ما سبق مجرّد نماذج ليس من غرضها الاستقصاء والحصر، وبناء عليه، فإنّه إذا كانت اختيارات هؤلاء الصحابة السياسية في الشؤون الداخلية والخارجية، قد خالفت النص، فإنّهم فيما لم يرد به النصّ كانوا يعتمدون السياسة فحسب، وفي هذا فقد دوّن السياسي عمر بن الخطاب الدواوين، وقرّب السياسي عثمان بن عفّان أولي قرابته في المناصب السياسية والمال، والأمثلة لمن أراد تتبعها كثيرة.
ومن قبلهم نجد الرسول الكريم بنفسه يتعامل بأريحية سياسية مع الخطط العسكرية الأجنبية والأعراف والقوانين الدولية في زمنه، فهو قد أخذ بخطة الخندق العسكرية من الفرس، وقد اتبع الأعراف والقوانين الدولية في زمنه في حادثتين: الأولى: حين قيل له إن الملوك لا تقبل رسالةً ليس عليها خاتمٌ فاتخذ خاتماً وأرسل رسائله وخطاباته للملوك ومهرها بخاتمه، والثانية: حين قال للرسولين اللذين جاءاه من مسيلمة: "لولا أنّ الرسل لا تقتل لقتلتكما" في اتباعٍ سياسيٍ لهذا القانون الدولي حينها والذي كان يمنع من قتل الرسل.
إننا نورد مثل هذه الشواهد والأدلة لقناعتنا أنها تقدّم تصوّراً دينياً أكثر انفتاحاً وتعاطياً مع الواقع من الخطاب السائد، وأيضاً فثمة فرق كبير بين إيرادنا لها للتدليل على أنّ المصلحة يجب أن تكون الموجّه الأساس للقائد السياسي وليس النص المفرد، وبين إيراد جماعات الإسلام السياسي لها، فجماعات الإسلام السياسي إنّما توردها لتثبت موقفها المخوّن للحاكم والمؤيد لها، فهذه المصلحة إن عمل بها الحاكم اعتبروها تمثّل خروجاً عن الدين ومروقاً من الملّة، وهي إن طبّقوها هم نظّروا لها أنّها تمثّل "مقاصد الشريعة" ومصالح الأمة، وكأنهم هم وحدهم من يملك حق تمثيل الأمة والتعبير عنها وتحديد مصلحتها.
كما جاءت على لسان الرسول الكريم نصوص أصرح فيما يتعلّق بالتمييز بين أمر الدين من جهةٍ وأمر السياسة أو الدنيا من جهةٍ أخرى، فهو القائل كما في الصحيحين: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وهو القائل كما في صحيح مسلم: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي".
وتأكيداً لهذا فقد قال ابن قيّم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين ما نصّه: "الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلّها، وحكمةٌ كلّها" وتفريقه بين مصالح المعاش أي أمر الدنيا وسياستها والمعاد، أي أمر الدين هو تبع للتفريق السابق في الحديث النبوي.
وأصرح من هذا قول الإمام نجم الطوفي الحنبلي في كتابه التعيين في شرح الأربعين ما نصّه: "من المحال أن يراعي الله عزّ وجلّ مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهمّ فهي بالمراعاة أولى، ولأنّها أيضاً من مصلحة معاشهم" ففرّق مثل ابن القيّم بين مصلحة الدين أو الأحكام الشرعية ومصلحة المعاش أي السياسة أو الدنيا.
وفي هذا السياق، نجد أنّ بعض القيادات السياسية التاريخية في بلدٍ كالسعودية كانت تستحضر هذا المعنى كامل الاستحضار، وتصرّح به وتتبعه، فمن ذلك ما نقله الأستاذ أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" ص584 سائلاً الملك عبدالعزيز بسؤال أجابه عليه الملك أتمّ إجابةٍ، سأل الريحاني قائلاً: "هل ترون من الواجب الديني، وهل ترون من الواجب السياسي أن تحاربوا المشركين حتى يديّنوا؟ فأجابني قائلاً: السياسة غير الدين." هكذا بكل وضوحٍ وصراحةٍ ويعلّق الريحاني قائلاً: "إن السلطان عبدالعزيز رجل كبيرٌ ..أنّه في السياسة غيره في الدين".
والملك عبدالعزيز يتّكئ في هذا القول على السياق العام لفهم العلاقة بين الدين والسياسة الذي أشرنا له في مطلع المقال، وهو في هذا القول يتّكئ أيضاً على جدّه الإمام فيصل بن تركي، فقد نقلت الشيخة مي الخليفة في كتابها سبزآباد ص132 عن الإمام فيصل بن تركي قوله للمبعوث البريطاني لويس بيلي: "إننا لا نخلط بين الدين والسياسة".
ويجدر بنا في هذا السياق نقل قول الشاطبي في الموافقات: "وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عند حد من غير استنباط … ولكن الله منّ على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام إذ قال تعالى (لتحكم بين الناس بما أراك الله) وقال في الأمة (لعلمه الذين يستنبطونه منهم)"2/416.
إن السياسة اليوم كعلمٍ وكتطبيقٍ قد تطوّرت بشكلٍ مذهلٍ وبخاصةٍ في القرنين الأخيرين، ولم يعد مجدياً في التعامل معها ومع تعقيداتها وتشابكاتها بتنظيراتٍ أكل الدهر عليها وشرب، بل ينبغي أن يكون تعاطيها موازياً لتطوّرها وإنما أكثرت من النقول التراثية في هذه المقال لتأكيد أصل المسألة وهو أنّ السياسة غير الدين.
إنّ القائد السياسي مسؤول عن توفير كل ما ينفع شعبه في الشؤون الداخلية والخارجية، في السياسة كما في الاقتصاد، في الجيش كما في المجتمع، وفي التنمية والصناعة والزراعة والتعليم وغيرها كثير، وعليه أن ينظر كسياسيٍ لما تقتضيه مصلحة بلاده بعيداً عن تحكّماتٍ بعض أتباع الإسلام السياسي أو الفقهاء المقلّدين، فهذا حقّه ومجاله وليس لهم عليه حق في التغيير أو التبديل فهو أدرى منهم بالمصلحة العامة وأقدر منهم على رعايتها.