من "مرج دابق" إلى سقوط "الخلافة"
ليس من السهل اختصار تاريخ شعب أو أمة في كتاب واحد مهما بلغ حجمه وتعددت صفحاته، ويصبح الأمر أكثر صعوبة عندما يتعلق بتاريخ العرب الذين وحدت بينهم اللغة والثقافة والدين وفرقت بينهم الجغرافيا بعدما أخضع كل جزء منهم لظروف مختلفة على مدى القرون الماضية، لكن مع ذلك لم يتردد "يوجين روجر" أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة أوكسفورد البريطانية في خوض التجربة وتأليف كتابه الذي نعرضه هنا وعنوانه "تاريخ العرب". وخلافاً للكتاب المرجع الذي سبق إليه "ألبير حوراني"، وهو المؤرخ الذي تتلمذ على يديه مؤلفنا، لا يسعى "يوجين" إلى تعقب تاريخ العرب منذ بداياته الأولى التي خرج فيها العرب من شبه الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام، كما تحاشى الجوانب التي تطرق إليها "حوراني"، مثل التبادل التجاري والحياة الاجتماعية، ليقتصر على فترة تاريخية بدأت مع القرن السادس عشر، وتحديداً في 24 أغسطس 1516 عندما تقابل جيش السلطان سليم مع قوات المماليك القادمة من مصر في مرج دابق بسوريا لتبدأ مرحلة جديدة ستخضع فيها معظم المناطق العربية للحكم العثماني، هذا التاريخ الذي سيمتد على مدى القرون اللاحقة ولن ينتهي إلا في مطلع القرن العشرين عندما انهارت الإمبراطورية العثمانية وانتلقت مقاطعاتها العربية إلى أيدي القوى الاستعمارية الرئيسية، البريطانية الفرنسية، بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى.
وينتقل بنا المؤلف إلى بدايات القرن العشرين والمحاولات الدؤوبة التي بذلتها الإمبراطورية العثمانية ومعها البلدان العربية التي استطاعت تأسيس حكم ذاتي وإدارة شؤونها بعيداً عن تدخلات اسطنبول، مثل مصر، للحاق بالتقدم الغربي الذي ظهر واضحاً خلال الحملة الاستعمارية الغربية وما ولده ذلك من صدمة حضارية. لكن الإحباطات العربية، يقول الكاتب، ستبدأ مع نهاية الحكم التركي، فقد ساهمت القوتان الفرنسية والبريطانية في تحريك المشاعر القومية العربية المنافسة للحكم التركي، وشجعتا التمرد على آخر بقايا الحكم العثماني المنهك مقابل الحصول على تعهدات بتشكيل كيان عربي قومي في منطقة الشام واحترام السيادة العربية، هذه التعهدات ذهبت أدراج الرياح بعد تكشير الغرب عن أنيابه وظهور نواياه الحقيقية، ليدخل العرب في مرحلة الصراع المرير من أجل التحرر. ويعتمد الكاتب في نسج تاريخه على مجموعة من الاستشهادات التي يستقيها من كتاب عاصروا المراحل المختلفة التي يصفها المؤرخ المصري "الجبرتي" الذي كان شاهداً على الحملة الفرنسية بقيادة "بونابارت" ضد مصر، واصفاً مشاعر الاندهاش والتقدير للإنجازات العلمية التي وصل إليها الغرب، وفي نفس الوقت معبراً عن الخشية من استخدامها لإخضاع أراضي المسلمين، وهي المشاعر الملتبسة نفسها التي يرصدها الكاتب عند "رفاعة الطهطاوي" الذي دوّن ملاحظاته عن رحلته إلى باريس بعدما اختلط فيها أيضاً التقدير والاحترام للمنجزات العلمية الفرنسية والاشمئزاز من الطريقة التي يخضع فيها الرجال للنساء كما بدا له حينئذ.
وخلال جولته على المحطات التاريخية الكبرى لم يغفل الكاتب بعض الأحداث التي تهمشها كتب التاريخ مثل ذلك التنافس الذي يشير إليه الكاتب بين مصر والدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر، ومحاولات التوسع والتحديث التي قادها محمد علي باشا، بالإضافة إلى ثورة الريف في المغرب خلال عشرينيات القرن الماضي. كما يعرج الكاتب على المسألة الفلسطينية ليخرج بخلاصة مثيرة تتمثل في أن الإرهاب يؤتي أكله في بعض الأحيان وذلك باستناده إلى تجربة اليهود في فلسطين حيث انخرطت الجماعات اليهودية المختلفة في عمليات إرهابية استهدفت الانتداب البريطاني، لتدرك بريطانيا بعدها أنها لا تستطيع الاستمرار في فلسطين فخرجت تاركة وراءها المنظمات اليهودية أكثر تنظيماً وأحسن تسليحاً لمهاجمة العرب وطردهم من قراهم بعد إعلان دولة إسرائيل. وفي السياق الفلسطيني أيضاً يشير الكاتب إلى الدينامية التي خلقتها إسرائيل بعد احتلالها للضفة الغربية وغزة عام 1967 إذ رغم القرار الأممي رقم 242 والقاضي بإعادة الأراضي التي احتلت، فإن القرار لم يحدد لمن تعاد الأراضي، وهو ما أثار مخاوف الفلسطينيين من رجوع سيطرة الأردن ومصر على الأراضي، لتنطلق منظمة التحرير الفلسطينية كمدافعة عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
ورغم محاولات الكتاب الإحاطة بتاريخ العرب منذ القرن السادس عشر فقد فشل في تغطية بعض الأحدث الكبرى، مثل ثورة عمر المختار في ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي، والقمع الذي تعرض له الليبيون بعدما سيقوا للعيش في معسكرات أقامها النظام الفاشي وقضت على الآلاف منهم.
زهير الكساب
الكتاب: تاريخ العرب
المؤلف: يوجين روجر
الناشر: ألان لين
تاريخ النشر: 2009