المساحات الخضراء: وسيلة فعالية للوقاية من الأمراض
شهد مجال التخطيط العمراني وتخطيط المدن مؤخراً دمجاً لأفكار خاصة تتعلق بالبيئة السكانية، مثل التنمية المستدامة، والاستدامة بوجه عام. ويأتي هذا الدمج كنتيجة لزيادة الإدراك بأن معدلات الاستهلاك الحالية لأفراد المجتمعات البشرية، وأنماط الحياة العصرية برمتها، يمكنها أن تؤدي إلى العديد من المشاكل المستقبلية. مثل فرط استخدام المصادر الطبيعية، وتدمير النظم البيئية، وخلق بؤر من ارتفاع الحرارة فوق المدن، وزيادة التلوث بأشكاله المختلفة، والإخلال بالعدالة الاجتماعية، والمساهمة بشكل كبير في التغيرات المناخية العالمية. وأمام هذا الكم من المشاكل المتوقعة، تزايد الشعور بين مخططي المدن، والمخططين العمرانيين، بضرورة السعي قدر الإمكان إلى تخطيط، وبناء، وإنشاء مدن، تتمتع بالاستدامة. وهو ما جعل هذا المفهوم ركناً أساسياً حالياً في فلسفة التخطيط الحديث للمدن، والتي تعتمد على أن مثل هذا التخطيط لابد أن يأخذ في الاعتبار تحسين الصحة الاجتماعية والبيئية للمدن ولسكانها، من خلال الاستغلال الأمثل للأراضي، مع خفض استخدام السيارات قدر الإمكان، وتحسين استغلال المصادر الطبيعية المتاحة، وتقليل مصادر التلوث بأنواعه المختلفة، وتحسين البيئة السكنية والاجتماعية للأفراد على وجه العموم.
وفي الآونة الأخيرة، تزايد الإدراك أيضاً، بأن تخطيط المدن، وبالتحديد حجم المساحات الخضراء، من متنزهات وحدائق، يلعب دوراً مهماً في معدلات الإصابة ببعض الأمراض، والوقاية منها. وهي الحقيقة التي أكدتها هذا الأسبوع دراسة صدرت عن أحد المراكز الطبية الأكاديمية في هولندا، ونشرت نتائجها في دورية علمية متخصصة في الصحة البيئية وصحة المجتمع (Journal of Epidemiology and Community Health). وخلصت هذه الدراسة إلى أن السكن أو الحياة على مقربة من مساحات خضراء، يحقق الكثير من الفوائد الصحية، وخصوصاً على صعيد خفض معدلات الإصابة بالأمراض العقلية، بالإضافة إلى خفض نسب الإصابة بخمسة عشر مرضاً، من ضمن أربعة وعشرين مرضاً تنتشر بشكل كبير بين المجتمعات الحديثة. وتوصل علماء الجامعة الهولندية إلى هذه النتيجة، من خلال تحليل البيانات الصحية لأكثر 350 ألف شخص، ومقارنتها بقرب أو بعد سكنهم ومحل إقامتهم عن الحدائق والمتنزهات، وغيرها من المساحات الخضراء. وبناء على هذا التحليل، اكتشف العلماء أن الحياة بالقرب من هذه المساحات، تساعد بقدر ملحوظ على خفض معدلات الإصابة بكل من أمراض شرايين القلب، وآلام الرقبة، والكتف، والظهر، والمشاكل النفسية مثل الاكتئاب والقلق المزمن، وداء السكري، وعدوى الجهاز التنفسي والأزمة الشعبية، والصداع النفسي والدوخة المستمرة، وعدوى الجهاز البولي والجهاز التنفسي، وبعض الأعراض والشكاوى التي لا يوجد لها تفسير طبي.
وتتفق هذه النتائج إلى حد كبير مع مفهوم الصحة البيئية Environmental Health ، الذي أصبح من أساسيات الصحة العامة في منظورها الحديث. فحسب \"منظمة الصحة العالمية\"، تشمل الصحة البيئية الجوانب المتعددة من صحة الإنسان، التي يمكن أن تتأثر بالعوامل البيئية المختلفة. أو بمعنى آخر، هي الأمراض والعلل التي يمكن أن تصيب الإنسان، نتيجة اختلال الظروف البيئية المحيطة. مثل تأثير العوامل البيئية الكيميائية والإشعاعية البيولوجية، المباشر أو غير المباشر، على الجانب الجسدي والنفسي والاجتماعي للحياة الإنسانية. وتمتد قائمة هذه العوامل لتشمل الظروف البيئية الجمالية، مثل نوعية الإسكان، وشكل التطور العمراني، وأساليب استغلال الأراضي، وحتى نوعية وكفاءة الطرق والمواصلات. وكل هذه العوامل والظروف، يعتقد الأطباء أنها تلعب جميعاً دوراً محورياً في احتمالات الإصابة بالأمراض، وفي المستوى الصحي العام للأفراد. وهو ما يجعل من الصحة البيئية مظلة واسعة، تغطي في طياتها هموماً صحية أخرى كثيرة، مثل نقص التغذية، ومشاكل التلوث، وقضية التخلص في النفايات.
وهو ما يجعل التخطيط العمراني المستدام، إحدى الوسائل الحديثة للوقاية من الأمراض، ولتحسين الصحة العامة إجمالا، وإن كان هذا الاتجاه للأسف، تركز فقط حتى الآن على المباني الخضراء، أو المباني الصديقة للبيئة، وتجاهل إلى حد كبير التخطيط العام للمدينة. وهو ما أدى بالتبعية إلى تجزئة الاعتبارات البيئية عند وضع الخطط العمرانية، بسبب تجاهل حقيقة أن المباني الخضراء تفقد فعاليتها بقدر كبير، على الصعيدين البيئي والصحي، إذا ما تواجدت داخل مدن لم توضع في الاعتبار عند تخطيطها وتنسيقها، ذات الاعتبارات من ناحية الاستدامة، ومن ناحية تحسين الصحة العقلية والجسدية لقاطنيها. فالمقارنة السريعة مثلا بين حجم المساحات الخضراء التي كانت تخصص في المدن الحديثة، بين بداية هذا القرن، والوقت الحالي، ستظهر أن نسبة المساحات الخضراء من المساحة الإجمالية قد انخفضت بقدر كبير. ويعود هذا الاتجاه في أساسه إلى الزيادة السكانية التي شهدتها المدن خلال العقود الأخيرة، بسبب الهجرة من الريف، والانفجار السكاني المعروف، مما جعل تخصيص أراضٍ للحدائق والمتنزهات أمراً صعب المنال. والمفارقة أن سكان هذه المدن، أصبحوا يتعرضون خلال الفترة نفسها لطوفان من أوبئة الأمراض المزمنة، مثل السمنة، والسكري، والاكتئاب، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب والشرايين، وهي الأمراض التي يستنزف علاجها جزءاً كبيراً من دخل هؤلاء الأفراد، أو من ميزانيات الحكومات في الدول التي تطبق نظم الرعاية الصحية الاشتراكية. ومثل هذه التكلفة، كان من الممكن تجنب جزء لا يستهان به منها منذ البداية، من خلال الاستثمار المجتمعي في مساحات خضراء أكبر حجماً داخل المدن، وبين وداخل البنايات، وهو الاستثمار الذي كان سيعود بفائدة اقتصادية جمة، من خلال خفض نفقات رعاية وعلاج مرضى الأمراض المزمنة، مع توفير نوعية أفضل من الحياة للجميع.