نحتاج إلى تبني نظرية علمية متكاملة عن العولمة باعتبارها الظاهرة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس! وأول نقطة بارزة في هذه النظرية أن العولمة أولا ليست مجرد مفهوم يشير إلى عمليات عالمية متعددة بقدر ما هي عملية تاريخية هي نتاج تراكمات شتى استمرت -في نظر بعض الباحثين- لقرون وقرون قبل أن تتبلور في صيغتها الرأسمالية العولمية الراهنة بفضل ثورة الاتصالات الكبرى، وفي قلبها شبكة الإنترنت. والعولمة لها تجليات متعددة سياسية واقتصادية وثقافية واتصالية. وأبرز تجليات العولمة السياسية هي الدفاع عن قيم ثلاث أساسية هي الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان. وكل قيمة من هذه القيم تثير مشكلات نظرية وعملية متعددة. ولعل أول مشكلة هي التساؤل: هل هناك نظرية غربية صورية محكمة تصلح للتطبيق في كل المجتمعات على رغم التفاوتات الضخمة بين نظمها السياسية ورؤاها للعالم؟ وسؤال آخر أثار جدلا شديداً في العقود الأخيرة وهو: هل يمكن تصدير الديمقراطية؟ وسؤال أخطر: هل يمكن فرض الديمقراطية بالقوة كما كانت نظرية المحافظين الجدد الذين سيطروا على إدارة بوش، وفي ضوئها تم غزو العراق عسكرياً لتحويله إلى مجتمع ديمقراطي يكون نموذجاً للعالم العربي والإسلامي؟ وإذا ولينا وجوهنا إلى حقوق الإنسان سنجد اختلافات ثقافية بصدد تفسير القيم الحاكمة لهذه الحقوق. فهناك مفاهيم غربية وصغيرة، وهناك من ناحية أخرى مفاهيم دينية إسلامية تتحدث عن أهمية التفرقة بين حقوق الله وحقوق الإنسان. أما التعددية فهناك إجماع على ضرورة احترام التعددية الثقافية والحفاظ على حقوق الأقليات في ضوء مفهوم المواطنة، غير أن الخلاف يتعلق بخطورة تحول التعددية الثقافية لدى بعض الجماعات مثل البربر في المغرب العربي أو الأكراد في العراق إلى مطالبات سياسية تتعلق بالحكم الذاتي أو حتى بالانفصال التام عن الوطن الأم. وهناك تجليات اقتصادية للعولمة تحدثنا عن بعض جوانبها حين ناقشنا رأسمالية العولمة من قبل. وخطورة هذه الرأسمالية هي النزوع إلى عبور الحدود الجغرافية وتحويل أسواق العالم المتعددة إلى سوق عالمية واحدة، تسيطر عليها الشركات والمؤسسات الكبرى المتعدية الجنسيات، ومحاولة تقنين كافة الأوضاع الاقتصادية في ضوء كف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد وإطلاق العنان لحرية السوق. أما التجليات الثقافية للعولمة فتبرز أساساً في صورة محاولة صياغة ثقافة كونية تقوم على نسق عالمي للقيم، مما قد يؤثر على الخصوصيات الثقافية للمجتمعات. وتبدو التجليات الاتصالية للعولمة في أنها تعبير بليغ عن أن العالم أصبح متصلا بفضل الثورة الاتصالية الكبرى. وفي ضوء هذه المقدمات لابد أن نؤكد على أن الجوانب الثقافية للعولمة تحتاج إلى مناقشات مستفيضة، بحكم تعقدها وتعدد أبعادها، في ضوء منهج علمي متكامل. ويمكن القول إن من أهم التطورات التي لحقت بمناهج العلوم الاجتماعية ظهور ما يطلق عليه المنهج المترابط Interdisciplinary، الذي يستفيد بشكل تأليفي من مناهج ونظريات ومفاهيم العلوم الاجتماعية المتعددة. ومنطق ظهور هذا المنهج أن المشكلات الإنسانية متعددة الجوانب، بحيث يستحيل على علم اجتماعي محدد أن ينفرد بدراستها بشكل شامل، فالاقتصاد له جوانبه الاجتماعية والثقافية، ولذلك نشأ ما يسمى "علم الاجتماع الاقتصادي"، كما أن السياسة لها جوانبها الاجتماعية والثقافية، ولذلك نشأ ما يسمى "علم الاجتماع السياسي" ليسد الثغرات في دراسات علم السياسة المقارنة. وتبدو أهمية تأثير العولمة على الأبعاد الثقافية في المجتمع وطرح المشكلة الأساسية التي تواجه كافة المجتمعات المعاصرة والتي تصاغ عادة في شكل سؤال هو: كيف يمكن تحقيق التنمية المستدامة لكل الناس؟ والتنمية المستدامة Sustainable أصبحت مفهوماً متداولا في أدبيات العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن، بالإضافة إلى تداوله على ألسنة الساسة وصانعي القرار، وهذه التنمية تشير أساساً إلى الجهود المخططة التي تهدف إلى تطوير المجتمعات بكل أبعادها بما يحفظ حقوق الأجيال القادمة، وبعبارة أخرى لا ينبغي لمشاريع التنمية أن تقنع بالتصدي لمشكلات قائمة في الحاضر، بدون نظر إلى المستقبل، وذلك حتى نضمن أن تستمر هذه التنمية وتعطي ثمارها لأجيال طويلة مقبلة. وحين يطرح السؤال حول كيفية تحقيق التنمية المستدامة لكل الناس، فهو في الواقع يثير قضية استراتيجيات التنمية المختلفة، والتي لا ينبغي أن يقع عبء التخطيط لها وتنفيذها على عاتق الدولة بمفردها. ذلك أنه مضى العهد الذي كانت فيه الدولة في بلاد شتى تقوم بكل شيء في مجال التنمية المخططة. وأصبحت تقع الآن على عاتق القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية أعباء متعددة في مجالات التنمية إلى درجة أن ظهر مذهب تنموي جديد موضوعه "الشراكة في عملية التنمية"، يركز على تعدد الأطراف وتوزيع المسؤوليات في عملية التنمية تخطيطاً وتنفيذاً. وهذا التنسيق المطلوب بين شركاء التنمية لا يمكن أن يثمر إلا إذا تبنى المجتمع المحدد رؤية استراتيجية واضحة. والرؤية الاستراتيجية في تعريفها الدقيق هي مجموع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في مجتمع محدد في ربع القرن القادم، ووضع سقف الربع قرن تقديراً لواقعية التنبؤات في عالم يتسم بعدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ. ويمكن القول إن غياب هذه الرؤية الاستراتيجية هو السبب الرئيسي في فشل عديد من الحكومات في الإنجاز الإيجابي في مجال الاقتصاد بما يعود بالخير على الناس جميعاً، وبالعكس فإن توافر هذه الرؤية الاستراتيجية كما هو الحال في ماليزيا هو الذي أدى إلى النجاح المشهود لتلك الدولة الصغيرة في مجال التنمية المستدامة. وتحقيق التنمية المستدامة ولكل الناس، يشير بوضوح إلى أهمية تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية وهو مطلب ضروري لأي تنمية حقيقية، غير أنه يقف أمام تحقيقه عديد من العقبات. ولا يمكن للتنمية المستدامة أن تحقق أهدافها بدون الانطلاق من إطار ثقافي متكامل يضم في مفرداته الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية. ولا شك أن تحقيق التحول الديمقراطي بمعنى الانتقال من السلطوية إلى الليبرالية مطلب أساسي يتطلب إصلاحاً سياسياً شاملا يدفع إلى حل أزمة المشاركة السياسية، التي تعبر عن قيم سلبية مثل اللامبالاة سواء من قبل النخبة أو الجماهير. وهذا الإصلاح لابد له أن يجابه مشكلة تخلف الثقافة السياسية في المجتمع العربي بشكل عام، نتيجة سيطرة الدولة على الأجهزة الأيديولوجية، التي تتمثل أساساً في الإعلام بكل صوره، والتي تعمل -في الغالب الأعم - على إشاعة الوعي الزائف بين الجماهير حتى لا تعرف جذور التخلف السائدة، والتي يرجع عدم القدرة على مواجهتها إلى استبداد بعض النخب السياسية الحاكمة واستئثارها بالسلطة والثروة معاً، وشيوع الفساد، وإقصاء الجماهير عن المشاركة في عملية اتخاذ القرار بكل مستوياتها. والتنمية المستدامة في العالم العربي واجهت صعوبات أساسية نتيجة للفشل الواضح في اختبار الحداثة! بعبارة أخرى عجز المجتمع العربي المعاصر عن تطبيق نموذج الحداثة الغربي الذي كان وراء التقدم الذي شهدته المجتمعات الغربية. وهناك في الواقع حداثات مختلفة أبرزها الحداثة السياسية والتي تعني تطبيق الديمقراطية بكل مفرداتها وأهمها التعددية السياسية وحرية التفكير وحرية التعبير وتداول السلطة. وهناك الحداثة الفكرية التي كان شعارها أن العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الديني. غير أننا ونحن في عصر العولمة التي تقوم على الانفتاح الثقافي والعلاقات المتبادلة بين الدول والشعوب نجد قيوداً شديدة في المجتمع العربي على الحداثة الفكرية بحكم شيوع "ذهنية التحريم" وتقييد حرية المفكرين والمبدعين مما يعتبر في الواقع تعبيراً عن اتجاه رجعي مضاد للعولمة. وإذا كان المجتمع العربي عجز عن تبني نموذج الحداثة الغربية بكامل مفرداته، إلا أنه حاول من خلال عملية تحديث مشوهة أن ينتقل المجتمع التقليدي العربي إلى مجتمع شبه حديث، وفق مسيرة متعثرة. وهكذا يمكن القول إن أزمة المجتمع العربي المعاصر يمكن اختزالها في عبارة واحدة هي غياب الحداثة في عصر العولمة!