"الفقه العربي" .. في أفريقيا
كان لبعض فقهاء الإسلام من بلدان الشمال العربي- الأفريقي، نفوذ خاص في بعض فترات النهضة الأفريقية في القرون الأولى للنهوض الإسلامي، جدير بأن نعاود النظر في دلالته ونخص منهم في هذا المقال جلال الدين السيوطي وابن أبي زيد القيرواني وعبد الكريم المغيلي.
ورغم انتقال النفوذ الروحي بعد ذلك لشخصيات فقهية ومجتهدين بارزين محليين أمثال الشيح عثمان بن فوديو والشيخ عمر تال، فقد جاء جهدهم الفقهي في وقت صراعات طائفية داخلية أو حروب ضد الاستعمار، مما جعلهم رموزاً لتفاعلات مختلفة.
ويستطيع المراقب أن يدرك الأثر الثقافي الواسع للفقهاء العرب في مناطق غرب أفريقيا، بل وفي بلاد مثل السنغال ومالي ونيجيريا بوجه خاص ليقارن بين الأثر الثقافي وبين أخبار التمردات والتقاتل في أنحاء من هذه المنطقة على نحو ما يجرى مؤخراً في نيجيريا أو في صحراء مالي والنيجر ممن يسمون بالسلفيين والجماعات الإسلامية.
في فترة نهوض التوحد حول الإسلام، كما يؤرخ لها باحث سياسي قديم من الأفرو أميركيين (ليس مسلماً) مثل إدوارد بلايدن (1830-1880)، أو فترة "أفرقة الإسلام" –إن جاز التعبير- كما يسميها "فنسان مونتاي (فرنسي شهير من مؤرخي أفريقيا في النصف الثاني من القرن العشرين، في هذه الفترات برزت ممالك أفريقية ذات طابع إسلامي بارز مثل مالي وسنغاي (وغيرهما من أعمال هذه الممالك أو على جوانبها)، بين القرن الثاني عشر حتى السادس عشر.
طوال هذه الفترة تحديداً كان المانسا (من ملوك مالي) أو الاسكيا (من ملوك السنغاي) أو مبعوثوهم وحجاجهم الكُثر يمرون وهم في طريقهم إلى مكة؛ بالقاهرة أو القيروان أو فاس، وكانت فقرة الكتب تحتل نصيب الأسد بين ما يحملونه من هذه المدن إلى عواصم مملكاتهم. وأظن أن أشهر هذه الرحلات كانت للمانسا موسى ملك مالي في القرن الرابع عشر كما هو معروف.
ليس صدفة أنه في وسط الثراء الاقتصادي المملوكي والأغالبي والعلوي المتبادل مع الممالك الإسلامية الأفريقية، أن تروج كتب فقهاء المسلمين على أوسع نطاق، ولكن أهم ما يثير الفكر العربي الآن هو هذه الألفة الملفتة بعلماء وفقهاء الإسلام من بلدان الشمال الأفريقي العربي نتيجة تلاحم ثقافي واجتماعي بالأساس مع أنماط الثقافة العربية الإسلامية في هذه المنطقة إلى جانب الثقافة الإسلامية العامة، إلى حد أن يكون الفقيه الإسلامي مثل "جلال السيوطي" أو "القيرواني" أو "المغيلي"؛ وكأنهم شيوخ هذه المجموعة أو تلك من فقهاء المجتمعات المحلية. ويصبح سؤال هذا الفقيه العربي أو ذاك وطلب الفتوى منه عملا دورياً مألوفاً، كما تعبر عن ذلك الكتابات الأفريقية نفسها.
يكفي أن أسجل هنا أثر فتاوى الشيخ جلال السيوطي لعلماء وسلاطين المسلمين في غرب أفريقيا بما عرف "دولياً" هنا باسم "الفتاوى" فقط لتعني أنها فتاوى جلال الدين السيوطي لأهالي أفريقيا. وقد جاء ذلك في السجلات الأفريقية نفسها، كما سجله السيوطي عام 1493 في رده على الشيخ "اللمتوني" (من سلطنة السنغال) في رسالة أسماها "فتح المطلب المبرور وبرد الكبد في الجواب على الأسئلة الواردة من التكرور". وضمن السيوطي رده المطول في كتاب له باسم "الحاوي في الفتاوي" بل إنه سجل ونشر مجموعة أخرى من الفتاوى لأهل التكرور "ينصحهم فيها بقواعد الإيمان وأحكامه. وكان "السيوطي" في ذلك الوقت معنياً بنفوذ الإمبراطورية الإسلامية العباسية من بغداد إلى بلاد المغرب والتكرور، ويسجل فتاواه ضد الانقسامات الإسلامية سواء على يد المماليك في مصر أو خارجها. ومعروف أن السيوطي من أبناء أسيوط بمصر ومن أئمة الأزهر المعنيين بالفتوى، بل ويعتبر نفسه "مهدياً". وقد ذكر له من الرسائل والمؤلفات ما يزيد عن 300 مؤلف. وكان معنياً أيضاً بالتأريخ وهو صاحب الكتاب الشهير عن "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"... الخ.
ولقد فوجئت في إحدى الزيارات لنيجيريا ومواقع الثقافة الإسلامية العديدة فيها، حين كانت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بقيادة أستاذنا الراحل الدكتور محيى الدين صابر معنية بتجديد الصلة بين الفكر العربي الحديث، ومنطلق المؤمنين بقيمة الثقافة العربية في تحديث المجتمعات الأفريقية؛ فوجئت بمن يصحبني إلى عدد من "المدارس" لإعداد الفقهاء الشبان (بين 12-16 سنة) في أنحاء شمال نيجيريا خاصة، وإذ بالأغلبية الغالبة من هؤلاء "الفقهاء" لا يعرفون العربية إلا في أضيق الحدود، لكنهم جميعاً يحفظون نصاً شهيراً عن ظهر قلب يستخدمونه في الإفتاء اليومي هو "الرسالة" ذلك الكتاب الذي تقوم دور النشر البريطانية خاصة بطبع الملايين من نسخة بالعربية وترجمته الإنجليزية –على نحو ما أكد لي النيجيريون- هو "رسالة ابن أبى زيد القيرواني"، العالم المالكي الشهير، والذي صنفها من عشرة قرون في هيئة صالحة لتعليم الفتيان، نصاً نظمه الكثيرون من بعده شعراً بهذا الاسم، "الرسالة" يحفظه الجميع لتيسير أحكام الدين في النجوع والكفور التي يتولى فيها هؤلاء الشباب "العلماء" أمور الفتوى للعائلات وسادة القرى في أنحاء البلاد. ومثل ذلك رأيت مكانة عبد الكريم المغيلي (المغربى) ضمن نصوص الأدب الشعبي في غرب أفريقيا جزءًا من تكوين الثقافة المحلية في الأساطير والملاحم التي تتحدث عن أصول "شعب الهوسا" مثلا أو معارف شعب الفولا في أنحاء مختلفة من هذه المنطقة، كما تعترف كتابات "أحمد بابا التنبكتي أو "التومبوكتي" بأثر هؤلاء العلماء جميعاً؛ مما اغتنيت بأعمالهم مكتبات تومبوكتو.
ولذا فعندما رحت أدرس سوسيولوجية المذاهب الإسلامية الأربعة على الأقل في إطار المنظمة العربية الموقرة لنفسر طبيعة انتشارها في أفريقيا فإنني لم أجد صعوبة في فهم شيوع المالكية في أنحاء غرب أفريقيا حديثاً بسبب الشروح التبسيطية الفائقة التي يصل بها الإسلام لفقهاء المنطقة الشبان والشيوخ عبر عمل مثل أعمال ابن أبى زيد القيرواني، مقابل تيسير الفتوى من قبل على يد السيوطي الشافعي.
لا استطيع الآن أن أشرع في بحث آخر عن أثر كل ذلك في تكوين قواعد الثقافة العربية الإسلامية في هذه المنطقة. أقول كل ذلك، وعيني على ما يجرى الآن، من تجاهل لنشر الفكر العربي –وياحبذا الحديث طبعاً- بين مكتبات بلدان غنية بالحركة الثقافية مثل السنغال ومالي ونيجيريا والنيجر وغانا... وغيرها، إذ لا نجد حواراً ثقافياً مع مفكريها أو ترجمة لأعمال عربية للغات المقروءة هناك حتى لو كانت الفرنسية أو الإنجليزية، في ظروف العولمة السائدة التي لم تعد اللغة حاجزاً بين الشعوب. ومن يطلع الآن على أعمال مؤرخين تقليديين معروفين بثقافتهم الإسلامية من أبناء منطقة غرب أفريقيا نفسها، فإنه لن يجد أثراً للكتاب العربى مثلما كان عند التمبكتي والسعدي وغيرهما من أبناء المنطقة منذ عشرة قرون. وليتابع من يريد أعمال "عمر صامب" (السنغال) وشيخو أحمد سعيد غلادنت (نيجيريا) ليجد أثر تقصير الثقافة العربية في الاتصال بهؤلاء الإعلام الأفارقة. وليس ذلك –للأسف- بغريب على المثقف والكاتب العربي الآن الذي لا نجد بين مراجعه أي معنى بارز يذكر لكتابات المؤلفين الأفارقة البارزين.
وسؤالي الأخير، هل يمكن تنظيم ما يصل لشعوب هذه المنطقة، بشكل أفضل من انتظار الحركات الصوفية الممعنة في العزلة عن الحياة الحديثة أو "الحركات السلفية"، التي حولت "السلف" إلى رموز إرهاب وعنف وتفتيت لأوضاع المسلمين في المنطقة بما لا نعرف مداه أو عقباه؛ وهم في كل الأحوال ليسوا المنشغلين بالفكر والثقافة سواء لتأكيد نفوذ السيوطي والقيرواني، أو طه حسين والجابري؟ ولا نعرف أيهم يمكن أن يطلق نهضة فكرية توحيدية على نحو ما روى لنا "بلايدن" و"مونتاي"! كل الذي نراه تمردات ممتدة باسم "السلفيين" في الصحراء الكبرى من شمال مالي والنيجر، إلى شمال نيجيريا... ومع حديث السلاح، ينتفي حديث الفقه العربي الإسلامي في أفريقيا.