الدولة/ الأمة... وافتراق المعنى الإسلامي
تعرفنا في المقال السابق على مفهومي "الأمة والدولة" في المرجعية العربية الإسلامية "الأصيلة" (الذكر الحكيم ولسان العرب). وفي نهاية المقال تساءلنا: من أين جاءت عبارة "دولة الإسلام" في قاموسنا المعاصر؟ وكان الجواب: إنها لم تأت من اللغة ولا من الإسلام كدين، وإنما من "التاريخ". وفي هذا المقال مزيد بيان:
سنتناول الموضوع على أربع مراحل، نطرح في كل منها مستوى من مستويات المشكل كما طرح ويطرح في الفكر العربي الحديث والمعاصر: سننظر أولا في الكيفية التي يجب أن تطرح المسألة بها داخل المرجعية التراثية حتى يمكن أن يكون لها جواب مستمد من هذه المرجعية نفسها، ثم نعرض ثانياً لتحليل العناصر التي يتحدد بها الجواب الذي تقدمه هذه المرجعية، ثم ننظر ثالثاً في الكيفية التي طرح بها المشكل في المرجعية النهضوية العربية الحديثة والمعاصرة، ثم نعرض رابعاً وأخيراً لعلاقة المسألة بالواقع العربي الراهن وآفاق مستقبله.
لنبدأ بطرح المسألة على المستوى الأول.
واضح أن هدفنا هنا ليس القيام بتحليل أكاديمي، وإنما هدفنا تأطير الموضوع تأطيراً يسمح بتوفير حد أدنى من الفهم والتفهم والتفاهم، اقتناعاً منا بأن من أهم عوائق التواصل والتفاهم بين تيارات الفكر العربي المعاصر انغلاق كل منها داخل مرجعيته الخاصة وانشداده المطلق إليها ونفي كل ما عداها، إما لجهله أو تجاهله وإما باعتماده تصنيفاً أيديولوجياً، بالمعنى الذي تكون فيه الأيدولوجيا هي "آراء خصمي". والمرجعية التراثية تتكون من التاريخ الإسلامي السياسي والفكري، الرسمي منه بصفة خاصة، منذ ظهور الإسلام إلى أواخر القرن التاسع عشر؛ إنها الفترة التي كان الإسلام فيها يشكل عالماً حضارياً يكفي نفسه بنفسه لا يعرف من المشاكل إلا ما نشأ فيه ووجد حلولا ما داخله. هذا العالم المغلق، المستقل بنفسه المتسع لمشاكله هو الذي يفكر داخله وبواسطة معطياته قسم كبير جداً من رجال الفكر في الوطن العربي، ليس الشيوخ والعلماء منهم فحسب، بل الشبان والمثقفون أيضاً. والمبدأ المؤسس لهذه المرجعية والمتحكم في توجيهها هو أن كل ما يوضع في مقابل الإسلام فهو ليس من الإسلام. أما بخصوص الثنائية التي تهمنا هنا، ثنائية الدولة/ الأمة فهي تعني في مرجعيتها الأوروبية: "المجال الذي تمتزج فيه الحدود الثقافية (والإثنية) مع الحدود السياسية"، الشيء الذي يعني أن الدولة/الأمة إنما تقوم عندما تحتوي الدولة الأشخاص الذين تربطهم قاعدة إثنية وثقافية. وبعبارة أخرى: عندما يكون هناك تطابق بين الدولة بوصفها تنظيماً سياسياً مع أمة أي مع مجموعة من الناس الذين يعتبرون أنفسهم مرتبطين بعضهم مع بعض ومنتمين إلى مجموعة بشرية معينة. وهذا المعنى لا نجد له ما يؤسسه في المرجعية العربية الإسلامية! ونستطيع أن نتصور بوضوح معنى الدولة/ الأمة، إذا فهمنا الدولة على أنها تنظيم سياسي مؤسساتي، وحصرنا مفهوم "الأمة" في المعنى العربي لمفهوم "القوم"، أي "الجماعة من الرجال والنساء"، على أساس أن "قَوْمُ كل رجل: شِيعته وعشيرته". وواضح أن هذا المعنى يجعل مفهوم "الأمة" في عبارة "الأمة الإسلامية" أو "أمة "النبي محمد عليه الصلاة والسلام" أو أمة نبي من الأنبياء، لا تتوقف في مدلولها النظري ولا في كيانها العملي على أية علاقة مع "الدولة"، سواء فهمنا الدولة في معناها اللغوي العربي الذي شرحناه، والذي تلخصه عبارة "الأيام دول، أي يوم لنا ويوم علينا.. الخ)، أو فهمناها في معناها الأوروبي الحديث الذي ذكرناه آنفاً. مفهوم "الأمة الإسلامية" كمفهوم "الأمة المسيحية" و"الأمة البوذية" و"الأمة اليهودية"... الخ يحيل إلى جماعة تربط بين أفرادها رابطة روحية تضامنية تشدها إلى نبي معين وليس إلى رئيس سياسي، وبالتالي فلا علاقة ماهوية بين مفهوم الدولة السياسية وبين "الأمة الدينية" التي قد تكون إطاراً لعدد غير محدود من الدول (الأقوامية)، تماما ًمثلما أن الدولة "الأقوامية" قد تضم عدداً من الجماعات أو "الأمم" الدينية" (الطوائف).
هذا بكيفية عامة، أما بالنسبة للدولة أو الدول التي تقوم في أقوام يدينون، كلهم أو بعضهم، بدين الإسلام، فإن مقتضيات هذا الدين التي لا تسمح بقيام تنظيم ديني (كهنوتي) يختص بأمور الدين، تفرض سلطة (منفصلة أو متصلة بالدولة) مهمتها السهر على تنفيذ الناس لتلك الأحكام بالموعظة الحسنة وما في معناها، وإذا تضمنت تلك الأحكام "حدوداً"، (أي عقوبات مادية، جسدية أو غيرها) فإن تنفيذها يوكل للحكام (السياسيين)، إذا تطلب الأمر ذلك.
وهذه العلاقة بين الفقهاء والحكام التي يستلزمها تنفيذ الأحكام، لا تعني أن الدولة في الإسلام دولة دينية (بالمعنى الغربي للكلمة) ولا أنها تقوم على الفصل بين الدين والدولة (بالمعنى العلماني للكلمة).
والواقع أن هذين المفهومين الغربيين (الدولة الدينية والفصل بين الدين والدولة) لا معنى لهما في المرجعية الإسلامية لأنه لا شيء في القرآن ينص على ضرورة، أو عدم ضرورة، قيام تنظيم سياسي من النوع الذي يسمى دولة في الفكر الحديث، من جهة، كما أنه لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي بمجمله "إسلام" متميز أو يقبل التمييز والفصل عن الدولة، كما لم تكن هناك قط "دولة" تقبل أن يفصل الدين عنها.
فعلا، كان هناك حكام اتهموا بالتساهل في أمر من أمور الدين كالجهاد أو مقاومة البدع... الخ، ولكن لا أحد من الحكام في التاريخ الإسلامي استغنى، أو كان في إمكانه أن يستغني، عن إعلان التمسك بالدين، لأنه لا أحد منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه غير شرعية الإعلان عن العمل بكتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم تكن هناك في التاريخ الإسلامي، في أية فترة من فتراته، مؤسسة خاصة بالدين متميزة عن الدولة، فلم يكن الفقهاء يشكلون مؤسسة، بل كانوا أفراداً يجتهدون في الدين ويفتون في ما يعرض عليهم من النوازل أو تفرزه تطورات المجتمع من مشاكل.
وإذن فعبارة "فصل الدين عن الدولة" أو "فصل الدولة عن الدين"، ستعني بالضرورة، داخل المرجعية التراثية، أحد أمرين أو كليهما معاً: إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلامية، وإما حرمان الإسلام من "السلطة" التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام. نعم يمكن أن تنجح في إقناع من يفكر من داخل المرجعية التراثية وحدها بأن الأمر لا يتعلق قط بإنشاء دولة ملحدة ولا بنزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع، يمكن أن تحلف له بأغلظ الأيمان بأن المقصود ليس هو هذا ولا ذاك، وسيكتفي بالقول "الله أعلم" ويسكت. ولكنك لا تستطيع أبداً أن تقنعه بأن "فصل الدين عن الدولة" ليس معناه حرمان الإسلام من "السلطة" التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام. وإذن فيجب البدء بالتمييز بين السلطة المنفذة للأحكام الشرعية وبين الهيئة الاجتماعية المسماة: الدولة.
وإذن فالمسألة التي طرحناها في المقال السابق، مسألة "الأمة" و"الدولة"، كمفهومين إسلاميين، لا تجد معناها الإسلامي، أي القابل لأن يجاب عنه من داخل التجربة الحضارية الإسلامية إلا إذا أعدنا صياغته بأن وضعنا فيه كلمة "أحكام" مكان كلمة "أمة"، وكلمة "سلطة" مكان كلمة دولة. فكيف ينبغي أن نفهم الصيغة الجديدة لهذا السؤال؟