في مناقب الصالحين
الحديث عن مناقب الصالحين وقراءة سيرهم والتعرف على آثارهم ومواقفهم، له من الخير والفائدة الكثير، خاصة إذا كان الحديث يتعلق بمناقب الأئمة الأربعة، أبي حنيفة ومالك بن أنس والشافعي وبن حنبل. ننظر مثلا كيف كان الوفاء في حياة أبي حنيفة لأستاذه وتلامذته، فقد كان دائم الذكر لمعلمه وشيخه حماد بن أبي سليمان الذي صحبه ثماني عشرة سنة كاملة، حيث يقول: \"ما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإني لاستغفر لمن تعلمت عليه علماً ومن علمته علماً\".
أما في مسألة البحث العلمي والذي كان للأئمة سبق في وضع أسسه وأصوله، حيث نجد أبي حنيفة يضع هذا الأمر موضع الفعل لمن يريد من أهل العلم أن يسلك طريقه، فيقول: \"لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت\". ويعني بذلك أنه على طلاب الفهم العلمي الصحيح والمستقل أن يدرسوا أصول المنهج العلمي وأن لا يجعلوا مسألة الأخذ من الكتب دون فكر أو جهد طريقاً لهم، وأن يكون لديهم عمق في فهم العلم الشرعي وطريقة البحث فيه. وقد كرس هذا العالم الجليل كل ما كان يجمعه من التجارة للإنفاق على العلماء والتلاميذ والأصدقاء، وكل ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وكان يقول لهم: انفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله فإني لم أعطكم شيئاً من مالي، ولكن من فضل الله عليّ فيكم، وهذه أرباح بضائعكم\".
ووضع أبو حنيفة لنفسه منهجاً خاصاً للصدقة يتلمس من خلاله حاجة المحتاج قبل أن يسأله، ويبحث عن المحتاج أين ما كان ليسد حاجته، وقد لاحظ ذات يوم في مجلسه رجلا لم يألف أن يختلف إليه، وقرأ في عين الجالس فقراً بعد غنى وبؤساً بعد ميسرة وعسراً بعد يسر، ولما انفض المجلس تابعه أبوحنيفة حتى عرف داره وفي الليل أخذ خمسة آلاف درهم واتجه إلى بيت الرجل ودق الباب وقال له: \"أيها الرجل وضعت عند بابك شيئاً هو لك\"، وعاد مسرعاً، وما أن أخذ الرجل الصرة وحل عقدتها حتى وجد المال ومعه كلمة رقيقة من أبي حنيفة يقول فيها: \"هذا المقدار من المال جاء به أبوحنيفة إليك من وجه حلال فليفرح بالك\".
وعندما جلس الخليفة هارون الرشيد إلى الإمام مالك بن أنس في بيت مالك يسمع منه الحديث، قال له الرشيد بعد مدة: تواضعنا لعلمك فانتفعنا بك وتواضع لنا سفيان بن عيينة فلم ننتفع به.
وفي موضوع الافتاء والذي أصبح اليوم مجالا للجدل والنقاش، نجد مالك بن أنس يضع لنفسه دستوراً واضحاً حيث يقول: \"من أحب أن يجيب على كل مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار، وقد أدركناهم إذا سئل أحدهم فكأن الموت أشرف عليه\". ويضيف: \"ما من شيء أشد عليّ من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام\".
يحدثنا تلميذ الشافعي، العالم الجليل يونس بن عبد الأعلى، عن آخر اللحظات في حياة الإمام الذي كان يختم القرآن كل ليلة ويخص رمضان بستين ختمة. فقبل أن يفارق الدنيا مستقبلا الآخرة طلب أن يكون القرآن هو آخر ما يستمع إليه حيث يقول بن عبد الأعلى: دخلت عليه فقال: يا أبا موسى اقرأ عليّ ما بعد العشرين والمائة من آل عمران، وخفف القراءة ولا تثقل، فيقرأ عليه أبو موسى وعند الانتهاء يريد الانصراف، فينظر إليه الإمام الجليل قائلا: لا تغفل عني فإني مكروب\"، وفارق الحياة.
أما أحمد بن حنبل الذي اشتهر بثبات موقفه في محنة خلق القرآن، فيقول: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت. وكان ابن حنبل يدعو الناس للإيثار بأموالهم في موضوع الصدقة، حتى ولو كانت قليلة، فيقول: \"لو أن الدنيا تقل حتى تكون في مقدار لقمة، فأخذها امرؤ مسلم ووضعها في فم أخيه المسلم، ما كان مسرفاً\".