أَمن العراق... بين قزلباش وإنكشارية
إن ماحدث من مجازر فظيعة، لم يحصَ بعد عدد ضحاياها، وهو رقم مخيف حتماً، يوجب النظر في تشكيل الجيش والقوى الأمنية، بعد حلِّ القوات المسلحة السابقة كافة، وغلق المعسكرات، وبيع الأسلحة في سوق خردة الحديد والفولاذ، ولا يُعلم مَنْ البائع ومَنْ المشتري! فكانت إعادة تشكيلها، عقب أبريل 2003، غير بريئة، بمكان، من لوثة المحاصصة. وإذا كان التحاصص في مؤسسات الدولة المدنية بالغ الخطورة، فكيف بالمؤسسة العسكرية!
كانت المليشيات الحزبية التي شكلت النواة والهيكل للقوات العراقية، هي ميليشيات مدربة تدريباً فئوياً ببلدان كانت على خلاف شديد مع العراق، وفي ظروف ملتبسة، ضاعت فيها القيم، وسقطت الحدود بين المفاهيم، حتى عجزنا عن التمييز بين التحرير من السلطة، وبين احتلال الوطن إبان الحروب الثلاث.
من النادر أن تجد كياناً سياسياً عراقياً بريئاً من الولاء الخارجي، ومن محاولة توريط الجيش في الانتماء العقائدي، وبهذا تفسر كثرة الانقلابات العسكرية، وشدة تذبذب الأحزاب العراقية نفسها وسحب جماهيرها وراء الهتافات والشعارات لصالح هذه العاصمة أو تلك، وهذا ماجعل القوة الوطنية الخالصة "حديث خرافة يا أم عَمرو". إنها الحقيقة، تعاملت السياسة العراقية وأحزابها مع العواصم الأخرى بالعواطف والمصالح الحزبية والشخصية، لا بدافع مصلحة العراق، وقد قيل: "حُبك الشَّي يُعمي ويَصمُّ"!
لنتأمل في شعارات مرحلة من مراحل الصراع الحزبي، أيام كانت أعين الشباب متجهة صوب عاصمتين: القاهرة وموسكو، وها هي العواصم اللاعبة قد تكاثرت الآن، ولا "يدري خراشة ما يصيد"! كان الشباب العراقي يصطف على جانبي طريق مطار المثنى ببغداد فريقين، لاستقبال أحمد بن بلّا، أحد أبرز قادة الثورة الجزائرية آنذاك، عند زيارته للعراق، بعد تموز 1958، وحينها ليس هناك دولة دعمت تحرير الجزائر مثل جمهورية العراق.
كان فريق يصيح: "أحمد بن بلّا أهلا بيك شعب السلام يحييك"! ويرد الفريق الثاني: ابن بلّا أهلا بيك شعب العروبة يحيك". وفريق يهتف: "أنا واگف فوق الملوية وگدامي (أمامي) الصين الشعبية وبصفه (بجانبها) الدولة الاشتراكية، وتگلي (تقول لي) گرب(اقترب) يا زين"! ويرد الفريق المواجه: "أنا واقف فوق الأهرام وگدامي بساتين الشام... وتگلي گرب يازين". ويصيح الفريق الآخر: "وحدة وحدة عربية لا شرقية ولا غربية"، ويجيب الخصم: "اتحاد فيدرالي صداقة سوفييتية"! لقد مسخت الآراء وسالت الدماء بتأثير الخارج فكراً وعقيدةً، حتى أصبح سفير العراق بالقاهرة أداة لها ضد بغداد نفسها. فتأمل!
كان الجيش داخل المعمعة، يشق عصا الطاعة على وطنه بأمر قادته وصغار ضباطه، حتى صار جيشاً ميليشاوياً لا نظامياً. لا يغضب مني كبار ضباطه، فلا اتهمهم بعمالة أو تواطؤ، بقدر ما أريد القول: الجيش والحزبية لا يتفقان، مثله مثل الدين وتوريطه في السياسة الضيقة، والخطورة عليهما وعلى البلاد واحدة، إنه العنف والشقاق، تقول فيقولون. وها هي خرافة الجيش العقائدي انتهت بضباطه وجنوده إلى الفاجعات والانكسارات.
ضعوا، وأنتم تبنون جيش العراق، تلك التجارب أمام أعينكم، فإذا كانت الحزبية أضعفت الدفاع العراقي إلى حد الانهاك فإن تشكيله من ميليشيات متحزبة سيجعل حاضره ومستقبله أكثر فجيعةً. لقد تبدلت شخوص الصراع، مما بين قوميين واشتراكيين إلى ما بين سُنَّة وشيعة، وعرب وكُرد، وربما زالت آثار تلك المواجهات بزوال بريق العقائد وكشف المستور، لكن آثار المذهبية الدينية والأحقاد القومية ليس لها مزيل، فتنبهوا إلى أين أنتم ذاهبون، وبأي ملهاة تلهون!
يصح لنا تذكر الزمن الإنكشاري والقزلباشي، ونحن ننظر إلى هيئات الضباط، كباراً وصغاراً، غير الدالة على حزم ووجاهة عسكريين، والسخاء بالرتب الكبرى، على قدر القِدم في الجهاد، والطاعة للحزب، ومعلوم أن التدريب على حرب العصابات غير التدرب للدفاع عن الأوطان والإخلاص لها.
وعن تاريخ الفريقين، يُذكر أن الدولة العثمانية في بداياتها قامت بخطف الأطفال من أحضان أمهاتهم من الشعوب المُحتلة، على أساس أنها بلدان كفر، وتمت تربيتهم تربية عسكرية خاصة، وأسس منهم (1326 ميلادية) جيش الإنكشارية، وترتيب العقيدة البكتاشية لاحلال البركة على رؤوس الجنود، وأطلق شيخ البكتاشية، وهي طريقة صوفية، على هذا الجيش اسم الجيش الجديد، ثم لفظ بالعربية الإنكشاري. وباسم الدين وتلك العقيدة الصوفية تنمر الإنكشاريون حتى أخذوا يتوجون السلاطين ويعزلونهم، ويهيمنون على الطرقات، ويقفون ضد تجديد البلاد والجيش نفسه، حتى كانت نهايتهم، عام 1826، ثم التمكن من الطريقة البكتاشية نفسها (الوردي، لمحات اجتماعية)، ولكن بعد 500 عام.
أما القزلباش فهم قوام نواة الجيش الصفوي، ومعناها أصحاب الرؤوس الحمراء، حيث كانوا يعتمرون قلانسَ حُمراً، ولغلبتهم كانت بلاد إيران تسمى ببلاد "القزل باش". والأصل أن جد إسماعيل الصفوي (ت 1524 ميلادية) أنشأ منهم قوة عسكرية عقيدتها الطريقة الصفوية، وهي طريقة صوفية أيضاً. وكان سبب وجود القزلباشية، وهم الأتراك السُنَّة وتحولهم إلى قوة شيعية في مواجهة الأتراك أنفسهم: أن الشيخ صدر الدين موسى (ت 1390 ميلادية)، شيخ الطريقة الصفوية، كان مكرماً عند الغازي تيمورلنك (ت 1405 ميلادية)، ولما زاره الأخير طلب منه إطلاق سراح مَنْ أسرهم من آسيا الوسطى، فأجابه إلى ذلك، فأنضم أولئك إلى الطريقة الصفوية، ثم تشيعوا مع تشيعها، وصاروا وأجيالهم عمدة الجيش الصفوي (لغة العرب 6 السنة 1931)، حتى تمكن بهم الشاه إسماعيل خوض الحروب ضد العثمانيين، كقوة شيعية جعفرية بمواجهة الإنكشارية كقوة سُنَّية حنفية! مع أن الإمامين الصادق (ت 148 هـ) والنعمان (قتل 150 هـ) لم يتجالدا بالسيوف، بل ولم يضاد أحدهما الآخر!
أتيت بهذا المثل من باب الحذر، وأخذ التجارب بنظر الاعتبار، لتأسيس دفاع وأمن لا ينقلب على أهله بكوارث لا تحمد عواقبها، وأهل العراق لم تبق فيهم عروق تحتمل المزيد، فكيف إذا أصبحوا بين نيراني إنكشارية وقزلباش!
قد يرد أحدهم علينا، ويقول: إن رؤساء وولاة اليوم ليسوا سلاطين وشاهات الأمس! وما هذا التشبيه بين صراعات الماضي والحاضر إلا محاولة لإلغاء الأبعاد ما بين الأزمنة! وأقول: مَنْ يتأمل الساحة العراقية، وما يثور فيها من خلافات الماضي الحادة، وما تلده يومياً من عجائب، لا يجد غرابةً من التشبيه بما كان بين إنكشارية وقزلباش، أو عثماني وآخر وصفوي!
عاينوا ما أوصلتم البلاد إليه بعين أمينة، وتعاملوا مع الجيش بحذر، وأعيدوا النظر بهبات المراتب التي منحت على قدر الخدمة في المعارضة، مراتب إشاراتها سيوف متقاطعة، وتيجان لامعة، وإمارات فيالق وألوية. ولا أدري كيف أمسى المحللون السياسيون، حسب ما تمنحه الفضائيات من ألقاب، حاملين رتب أمراء ألوية، وغدا رعاة الجوامع والحسينيات حاملين أمراء ألوية وعمداء وعقداء!
الخلاصة: إن أمن العراق حصانة لأمن الطائفة والقومية، هذا إذا كان يرعاه جيش وطني، وينطق باسمه أمناء لا كذابون ومرتشون ومحتالون!