كثيراً ما نظر المؤرخون إلى الثورة الثقافية باعتبارها أسوأ كارثة سياسية حلت بالصين. غير أن هناك ما يشبه حالة النسيان في بلد لا تزال شرعية النظام الحاكم فيه تعتمد إلى حد كبير على التكتم على الماضي وعدم إفشاء أسراره وخفاياه. ويساهم في حالة الصمت هذه حتى أفراد عامة الشعب الصيني الواقع تحت تأثير تقاليد الفيلسوف الروحي كونفوشيوس، والتي تدور حول مفهوم التجانس الاجتماعي. وبسبب هذا التأثير يتفادى الكثيرون تحميل جهة ما أو أفراد بعينهم مسؤولية أحداث العنف التي وقعت في الماضي. وبفعل التحولات السريعة التي تمر بها الصين اليوم، فقد تراجعت كثيراً ذكريات الفظائع التي ارتكبتها قوات الحرس الأحمر، وممارسات التعذيب الجماعي، وعبادة الزعيم ماو تسي تونج، وحرق الكتب... إلخ. ومهما يكن فلا شيء يفوق الثورة الثقافية سوءاً وفظاعة خلال السنوات بين 1966 و1976، إذ فعلت بالشعب الصيني ما لم يكن في حسبانه، وذلك بقلبها لحياته رأساً على عقب، وإضعافها للحزب الشيوعي والحكومة والجيش والاقتصاد الوطني والمجتمع وثقافته. وخلال تلك السنوات لحق الأذى والقتل بعشرات الملايين من الصينيين. ووسط ذلك كله كان الغانم الأول هو الزعيم تونج، ورفقته من "عصابة الأربعة" الذين عرفوا بذلك اللقب مؤقتاً. والشيء المؤسف أنه لم يتقدم لتحمل المسؤولية عما حدث للصين في تلك الفترة أي من القادة السياسيين اليوم، أو حتى أحد أعضاء الحزب الحاكم العاديين. وبالنتيجة تكررت دورة التاريخ مرة أخرى في الصين في عام 1989. وتجلى هذا التكرار في أحداث الرابع من يونيو من ذلك العام. ففي ذلك اليوم أمر الزعيم "دنج خياوبنج" بإطلاق النيران على مظاهرة احتجاجية سلمية نظمها الطلاب في ساحة تيانانمين الشهيرة. يذكر أن احتجاجات الطلاب كانت تدور حول انتقادهم لشمولية النظام الحاكم، والمطالبة بإجراء إصلاحات اقتصادية، وإصلاح سياسي في إطار الهياكل الحكومية السياسية القائمة. ووفقاً للمعلومات الصادرة عن منظمة "الصليب الأحمر الصينية"، فقد قتل جراء ذلك الهجوم العسكري الوحشي حوالي ألفين إلى ثلاثة آلاف طالب من المشاركين في الاحتجاجات. هذا وتذكّر الصورة الفوتوغرافية التي التقطها "جيف وايدنر"، مصور وكالة "أسوشيتد بريس" في اليوم التالي من المجزرة في الساحة نفسها، كافة عشاق الحرية على نطاق العالم كله، بأنه لا سبيل للصين كي تتحول إلى دولة حرة، ما لم يدرك الشعب الصيني أن قبضة الحزب الحاكم ذي السلطات المطلقة، وأن نظام الدولة البوليسية الخانقة، لن يمنحاه الحرية التي ينشدها مطلقاً. وطالما أن هذه هي الحقيقة، فربما كان قائد سياسي مثل رئيس الوزراء السابق "زهاو زيانج" أكثر خطراً على النظام القائم في مماته مما لو كان حياً إلى اليوم. ومكمن خطر هذا الزعيم أنه نشر للمرة الأولى بعد رحيله، أسرار وخفايا نظام عمل الحزب الحاكم، عبر مذكرات سرية كان يواظب على تدوينها باستمرار طوال سنوات الإقامة الجبرية التي فرضت عليه منذ عام 1989 وحتى وفاته في عام 2005. والسبب هو أن زهاو زيانج كان من القلائل الذين اعترضوا على مجزرة تيانانمين وحاولوا وقفها، فكانت النتيجة عزله من منصبه وإحالته للإقامة الجبرية في منزله الواقع في أحد شوارع بكين الهادئة المعزولة. على أن سبب عزله وسجنه لم يكن يقتصر على اعتراضه على مجزرة ساحة تيانانمين وحدها، إنما يعود إلى مواقفه وسياساته الهادفة إلى توفير قدر معقول من الحرية والانفتاح في ممارسة الحزب وحكومته. ولكنه ثابر خلال السنوات الستة عشر الأخيرة من حياته التي أمضاها تحت الإقامة الجبرية، على تسجيل مذكراته سراً، وهي مذكرات تحكي عن حياته وسيرته الشخصية، إلا أنها تتداخل وتتقاطع مع مسيرة عمله الحزبي والحكومي. وأهم ما تكشفه المذكرات في هذا الجانب الأخير، خفايا وأسرار تصريف شؤون الحزب والدولة خلال الجزء الأعظم من التاريخ السياسي الصيني الحديث. وبعد أن اكتملت تلك التسجيلات الصوتية، تم تهريبها سراً حيث أعدت وحررت وترجمت لتمثل الأساس الذي قام عليه الكتاب الذي نعرضه هنا. كان طبيعياً أن تشمل المذكرات وصفاً تفصيلياً دقيقاً لمجزرة ساحة تيانانمين والأحداث والتطورات التي أدت لها. كما شملت وصفاً للتكتيكات والحيل والأساليب التي يستخدمها قادة الحزب الحاكم في إدارة الصراعات فيما بينهم، وتحقيق طموحات الزعامة والوصول إلى المواقع القيادية المتقدمة في كل من الحزب وجهاز الدولة. وبحكم ظروف وملابسات سجنه، فلا غرو إن طالب السجين السياسي بانفتاح بلاده وتحرير جهاز الحكم من قبضة الحزب، وبالتحول نحو الديمقراطية، باعتبارها شروطاً أساسية لتحقيق الاستقرار السياسي المستدام في الصين. بهذا الفهم يمثل الكتاب انتقاداً لاذعاً للسياسات الصينية المعاصرة، التي تبدي ترحيباً واضحاً بسياسات الانفتاح الاقتصادي، لكنها في الوقت نفسه تتبنى سياسات شديدة الانغلاق والتحفظ إزاء الحرية السياسية وما تتطلبه من تسامح مع الخصوم السياسيين، وانفتاح على الآخر. هذا صوت صادر من سكون المقابر وعزلتها. إلا أن لصاحبه من السلطة الأخلاقية، ما يحمل الشعب الصيني كله على الوقوف والاستماع إلى ما يقول. عبدالجبار عبدالله ------- الكتاب: سجين الدولة: مذكرات زهاو زيانج السرية إعداد: باو بو، ريني تشيانج ورودريك ماكفاركهار الناشر: دار "سايمون آند تشوستر" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2009