التعليم الجديد: المتعلم قبل المعلم
تسعى الرؤى التعليمية في دول العالم المتقدم، وفي بعض الدول النامية الطامحة للنهوض، إلى التحول بمجتمعاتها نحو نظام مجتمع المعرفة، المنتج والمنفتح والمتطور، بما يفترضه من أدوات ومحتويات تجمع بين الانفتاح والأصالة، بين التنوع الفكري والحفاظ على الخصوصية الثقافية. وتهتم الرؤى التعليمية الجديدة بتحقيق التربية المستدامة والإفادة من معطيات العصر والتحسب لتحديات المستقبل. هذه الرؤى ومتعلقاتها داخل الحقل التربوي، هي الموضوع الذي يتناوله الدكتور محمد عبد الهادي حسين، الخبير الاستشاري التربوي، في كتابه "5 استراتيجيات جديدة للتعليم". ويقع الكتاب في خمسة فصول تتناول التعليم التعاوني، والتعليم المستقل، وتعليم الدرس والمذاكرة، والتعليم على أساس حل المشكلات، وتعليم الذكاءات المتعددة.
ويقصد المؤلف باستراتيجية التعليم مجموعة الأفكار والمبادئ التربوية التي تتناول منظومة التعليم، بصورة شاملة ومتكاملة، ومن ثم تكون ذات دلالة على وسائل العمل ومتطلباته واتجاهات مساراته سعياً لإحداث التغيير، وصولا إلى أهداف محددة. وحيث أن هذه الاستراتيجية منصبة على المستقبل، فهي تأخذ في اعتبارها احتمالات متعددة لإحداث التغيير، وتنطوي على قابلية للتعديل والتبديل وفقاً لمقتضيات الواقع ومتغيراته، وبذلك فهي تأخذ موقعاً وسطاً بين سياسة التعليم وخططه.
أما هدف الاستراتيجية التعليمية فهو صياغة الاختيارات التربوية العامة عبر مجموعة من الإجراءات الرامية لتحديد ما يجب عمله تبعاً لحالات محددة.
ولا يقدم المؤلف مجرد نظرات تربوية فلسفية، بل يعرض آراءه في استراتيجيات التعليم انطلاقاً من واقع التعليم المصري، والذي يرى أنه خضع لسياسات تقليدية جعلته يقنع بالمألوف، ويسير داخل مجراه النمطي المقنن، كما جعلته ينمو دون هدف ودون أن يكترث لاحتياجات المجتمع ومطالبه.
وفي الاستراتيجية الأولى للتعليم، وتتعلق بالتعليم التعاوني، أو التعليم المؤسسي والمجتمعي، ينطلق المؤلف من بيانات إحصائية تفيد بوجود خمسة ملايين طفل مصري يفتقر 92? منهم للرعاية التربوية الواجبة خلال سنوات ما قبل المدرسة، وهي مرحلة مهمة وحساسة تتأسس خلالها شخصية الطفل. يقول المؤلف عن هذه المرحلة إنها نقطة البداية في بناء شخصية الطفل، ومن ثم فالاهتمام بها يمثل ضرورة وطنية، ويجب أن تخضع لاستراتيجية عامة، شاملة وواضحة، تقوم على التوسع تدريجياً في الحضانات ورياض الأطفال وصولا بنسبة الاستيعاب إلى حوالي 100?، ولتكون رياض الأطفال بمواصفات تربوية وفنية صحيحة.
أما المدرسة العامة المشتركة، والتي تشكل في مصر مرحلة التعليم الأساسي، فيقول المؤلف إنها جديرة بأولوية متقدمة بين أولويات الهيكل التعليمي. وكونها مسؤولة عن تكوين القاعدة الثقافية للمواطنة، يستلزم تزويدها بأقصى طاقة ممكنة من الموارد والإمكانات المالية والبشرية والتشريعية والتنظيمية. وفي كل ذلك يركز المؤلف على أهمية العقل العلمي الحديث في التخطيط المستقبلي والتفاعل المؤسسي، لإنجاح المشروع التعليمي الناهض. كما يطرح استراتيجية خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، ويؤكد على دور المعلم في تحقيق الإصلاح التعليمي.
أما الاستراتيجية الثانية للتعليم فتتناول التعليم القائم على حل المشكلة، واستخدامه لتعلم طرق التعلم، ولتنمية التفكير الراقي من خلال مواقف موجهة نحو مشكلات الواقع. وفي هذا النوع من التعليم ينصرف اهتمام المدرسين إلى عرض الأفكار وبيان المهارات، وتصوير المشكلات وإثارة الأسئلة وتيسير البحث والحوار والاستقصاء.
وفي الاستراتيجية الثالثة يعرّف المؤلف بالتعلم المستقل، مبيناً العلاقة بين الاستقلال الفكري والتدريس البنيوي، مع توضيح الآثار الإيجابية والسلبية لتنمية الاستقلال الذاتي في المدارس، وتحديد مفهوم المذاكرة المستقلة، وتوضيح معطيات الدرس المستقل، وخصائص قادة الدرس المستقلين، وأبعاد التعلم بالاكتشاف، وتعريف التعليم الفردي وأغراضه وبرامجه... وخلال ذلك كله يحاول الإجابة على السؤال: لماذا ينبغي أن ننمي الاستقلال الذاتي في مدارسنا؟
ونقلا للاهتمام من النظر في ما يعمله المعلمون أساساً وفي تفكيرهم إلى ما يعمله التلاميذ وما يفكرون فيه، يتفحص المؤلف عناصر الأساس النظري الذي تقوم عليه استراتيجيات التعلم والاستذكار، فيعرف أنواع المعرفة؛ التقريرية والإجرائية والشرطية، كما يشرح أنماط استراتيجيات التعلم، مثل إعادة السرد والتسميع والتفصيل والتنظيم... مع توضيح لطرائق التعلم الفصلي، ومنها التعليم المباشر والتعليم التبادلي. وهنا يركز المؤلف على منهجيات تدريس المعلمين لاستراتيجيات التعلم للتلاميذ، وكيف يهيؤون الصفوف الدراسية، وكيف يديرون بيئات التعلم بطرق تنمي القدرة على تعليم كيف تتعلم. هذا مع بيان تفصيلي لطرق تنظيم الموارد البشرية والمادية والتنظيمية لترجمة طرائق التعليم.
وأخيراً يميز المؤلف في الاستراتيجية التعليمية الخامسة بين أنشطة التفكير والتعيينات الصفية، كما يشرح شرحاً وافياً أثر العمليات المساعدة على التعليم؛ مثل: المقارنة والتلخيص والملاحظة والتصنيف والتفسير والنقد والتخيل وبلورة الافتراضات وجمع البيانات وتنظيم المعطيات واتخاذ القرار وتطبيق الحقائق والمبادئ على المواقف الجديدة وتصميم المشروعات والبحوث. وبذلك تتضح استراتيجيات التعليم الجديدة، كأساس لنظام تعليم الغد، بإطاره الاجتماعي متمثلا في مجتمع المعرفة وفضاء العولمة المنفتح.
محمد ولد المنى
الكتاب: 5 استراتيجيات جديدة للتعليم
المؤلُف: د. محمد عبد الهادي حسين
الناشر: دار الكتاب الجامعي
تاريخ النشر: 2009