رؤية جديدة للنظرة السياسية السُنية
"عياض بن عاشور" باحث تونسي مرموق في الدراسات القانونية والسياسية، وهو في الآن نفسه حفيد المصلح التونسي الكبير الطاهر بن عاشور، أصدر مؤخراً كتاباً مهماً بالفرنسية بعنوان "في أسس الأرثوذكسية السُنية"، لا شك أنه يشكل إضافة نوعية في حقل الدراسات المتعلقة بالنسق السياسي والقانوني الإسلامي الوسيط. والكتاب المذكور هنا هو حصيلة أبحاث ودراسات متواصلة منذ عدة عقود، كان لها أثر ملموس في حقل الدراسات الإسلامية الغربية (نشر الكاتب مجمل أعماله باللغات الأجنبية).
ويلخص بن عاشور العناصر المؤسسة للنظرية السياسية السُنية التقليدية في أربعة أركان هي: الإيمان والدم والشرع وحالة الطبيعة.
فالإيمان هو المرجعية العليا للسلطة، والدم (بمعنى النسب) هو روح السياسة، وهو معيار انتقال السلطة، والشرع (بمعنى القانون) هو الذي يسير الكون ومكوناته هي الوحي والعقل والطبيعة كما إنه لا يستقيم دون القوة.
ويذهب بن عاشور إلى أن الدولة الإسلامية بهذا المعنى هي دولة دين وانْ كانت ليست دولة دينية، ودورها هو حراسة الشرع، لأن الشرع هو في آن واحد التعبير عن الإرادة الإلهية والقوة الرادعة للشر وعلامة وحدة الكيان الإسلامي. ويمكن تفسير مركزية الشرع بالتصور السُني المتشائم للإنسان الذي تحركه الأهواء الشريرة ونوازع الظلم والاعتداء، فالشرع هنا إنما وضع للتغلب على هذه الأهواء والنوازع. وذلك ما يستنتج منه صاحبنا أن النظرية السياسية في الإسلام السُني تندرج في سياق "نظريات الإخضاع"، باعتبار أن النظام الاجتماعي من حيث هو البعد التمديني للإنسان ليس بذاته طبيعياً، وإنما هو حالة إكراهية للحفاظ على السلم والأمن والدين. فالسلطة من هذا المنظور تجمع بين دور الراعي والمؤدب، فهي مدبرة وقاهرة، موحدة ومطلقة، إنها روح الجسم الاجتماعي، الذي لا قوام له من دونها.
أما مبادئ النظرية الدستورية في الإسلام السُني، فيلخصها بن عاشور في العناصر التالية:
- مبدأ الامتثال الكلي للأمة (fideocratie)، من حيث كون الأمة رباطاً إيمانياً، لا يستند للأرض أو الدم. ومن هنا التمييز بين نمطين متعايشين من الواقع السياسي هما الرابطة السياسية المتولدة عن الإيمان والمجتمع السياسي المتولد عن المصلحة. ويقدم هنا المؤلف ملاحظة على جانب كبير من الأهمية، هي كون السلطة الحاكمة ليست في الجوهر سلطة تشريع، ولا تتمتع بالسيادة التشريعية، وإنما تمارس أدوراً دفاعية وأمنية وتنظيمية ودبلوماسية.
- مبدأ المجموعة الدينية الذي يؤسس التصور الإيماني للرباط الاجتماعي باعتباره قائماً على التآخي في العقيدة. ومن هنا استحالة التخلي الفردي عن الولاء للمجموعة، بما يفسر محاربة الاختلاف والابتداع.
ويلاحظ بن عاشور هنا أن النسق القانوني الإسلامي تميز منذ نشأته بطابع "اللامركزية والتشتت" في مستوى تأويل النصوص واستقلالية الممارسات القانونية، مما يختلف جذرياً عن التصور الحديث للسيادة. ولذا فإن العلمانية إذا كانت لا تستهدف حقوق الممارسة الشعائرية لا تطرح أي مشكل بالنسبة للمسلمين خارج ديار الإسلام، لأنها تفضي إلى اللامركزية التعبدية التي هي ظاهرة إسلامية متأصلة.وإنما تطرح العلمانية إشكالا في البلدان الإسلامية لما تفضي إليه من فصل بين الديني والسياسي. فعلمانية المسيحيين مقبولة أما علمانية المسلمين فهي مرفوضة.
-الطابع التمثيلي والتعاقدي للسلطة: يرجع هذا التصور إلى نموذج الميثاق القبلي (السابق على الإسلام)، الذي يؤسس الوحدة الأساسية للمجتمع السياسي. فالأمة تحتاج إلى عنصر موحد حتى لا تتفكك إذا تركت لوحدها، ومن هنا دور الإمام المحوري بصفته حامي البيضة وحارس الدين. وإذا كانت الخلافة تستمد شرعيتها من إجماع الأمة، إلا أن الأمة تمثل بقادتها الطبيعيين من أمراء وشيوخ وعلماء. والآلية هنا بسيطة يدعوها بن عاشور بـ"الملكية الانتخابية "، وتقوم على تغلب الحاكم ثم إضفاء الشرعية البعدية عليه عبر البيعة. فالحاكم يمارس سلطته بحسب ضميره ووعيه لا بحسب المؤسسات، لأن مبدأ السياسة المؤسسية لا يتجاوز دائرة "أهل الحل والعقد" الضبابية. ولذا كانت الثغرة الكبرى في الفكر السياسي السُني تكمن في إخضاع السياسة للأخلاق، بالرهان على سلوك الفرد الحاكم، مما يعني عملياً قلب معادلة الشرعية لتتحول الأمة إلى موقع الخضوع الأعمى للحاكم على الرغم أنها مصدر الشرعية نظرياً.
-نظرية للعنف تستند على مبدأ السيادة المطلقة للإرادة الإلهية في الكون والمدينة وانعدام السيادة الإنسانية، عبر التراتب بين فاعلين ثلاثة هم الإله المهيمن على الكون والبشر، والحاكم الذي يمارس سلطته المطلقة بتفويض إلهي، والفرد الخاضع المطيع.
ليس من غرضنا التعليق المفصل على هذه الأطروحة المثيرة التي تستحق أن يطلع عليها القارئ باللسان العربي. وإنما حسبنا الإشارة إلى أن المؤلف الذي بذل جهداً هائلا في التوثيق لنظريته، احتاط في عرضه لها بالقول إنه لا يتحدث عن النظرية الإسلامية في المطلق، وإنما عن التصورات السُنية الوسيطة التي لا تحتكر شرعية الدين، وإنما تعبر عن سياق تأويلي وتاريخي محدود. وسنكتفي بملاحظتين محوريتين نوردهما ببعض الاقتضاب:
أولاهما: على الرغم أن بن عاشور نبه إلى أن الفكر السياسي السُني استند في النظر للحالة السياسية إلى تحليل واقعي للطبيعة الإنسانية مع حصر الاعتبارات المعيارية في خصال الحاكم الأخلاقية، فإنه لم يستنتج من هذه الملاحظة النتائج الضرورية. وأهم هذه النتائج في اعتقادنا هي الوعي بأن الفقهاء السُنة تعاملوا مع الدولة كحالة تدبير للعنف لا تسيير للشأن الجماعي المشترك، وهنا الفرق الأساسي بين مفهوم الدولة في التراث السُني الوسيط ومفهوم الدولة في الفكر السياسي الغربي القديم والحديث. فهم وإنْ أناطوا بالإمامة مسؤولية حراسة الدين وسياسة الدنيا حسب عبارات الماوردي الشهيرة، إلا أنهم لم يمنحوها سلطة التشريع، ولم يعترفوا لها بمنزلة التعبير عن الهوية العقدية للأمة، ولذا أرادوها خادمة للدين لا مجسدة له، على عكس ما فهم المؤلف.
ثانيا:من الصعب قبول نظرية التفويض الإلهي كأساس لشرعية الحاكم، بالاستناد إلى بعض النصوص الثانوية المعروفة (نجد أغلبها في أدبيات مرايا الحكام ومواعظ السلاطين). فمع الاعتراف بأولوية الأمة ومبدأ الطاعة، إلا أن التقليد السُني لم يلغ جوهريا فكرة الذاتية الواعية الفاعلة كما يقول بن عاشور متأثرا بأطروحة الفرنسي - الجزائري مالك شبل التي تحتاج لمراجعة نقدية عميقة. فالواقع أن غياب سلطة مرجعية مطلقة للتأويل الذي يفسر ظاهرة التمزق العقدي والمذهبي، الذي طبع تاريخ الأمة، يدل على أمرين جوهريين هما من جهة بروز ذاتية انتماء مرن للعقيدة والأمة في ما وراء مثال الوحدة المنشود، ومن جهة أخرى وجود ذاتية اعتراض ومعارضة لها شرعيتها البعدية التي توازي وتكمل شرعية المتغلب (راجع في هذا الباب أحكام البغي في المدونة الفقهية). وتبقى في كل الأحوال أطروحة بن عاشور مهمة وذكية وجديرة بالمناقشة والحوار.