للسلطة رموزها. وتختلط برموز الدولة. فالسلطة رمز الدولة. وتدل على ثقافة وتصور للحكم ورؤية للعالم. تعمل لا شعورياً في الحاكم والمحكوم، في السلطة وفي الشعب. وقد عبر عن ذلك الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر في كتابه الشهير "فلسفة الصور الرمزية" عندما جعل الأسطورة لا تقل رمزية في المعرفة عن العلم. وهناك رموز عدة في الحكم أو في الدولة. وفي الحكم قد تتنوع الرموز بين الصوتية والحركية. فمن الرموز الصوتية ما قد يُعرف عن الحاكم من اللازمات المشهورة مثل "أيها الإخوة المواطنون" التي كان يبدأ بها عبدالناصر خطبه أو "باسم الله" التي كان يبدأ بها السادات. وقد اشتهر ديجول في خطبه أثناء مقاومة الاحتلال النازي لفرنسا بعبارة "تحيا فرنسا الحرة". وقد تمتد الرموز خارج الأصوات المسموعة إلى الأشياء المرئية مثل العلَم أو ما يمسك الحاكم بيده عصاً أو سيفاً أو يلوح بقبضته أو يرفع ذراعيه أو يرسم رقم "7" بأصبعيه بين السبابة والوسطى كعلامة للنصر كما اشتهر عن تشرشل. وقد تتعدد الرموز بالصوت واليد أو بالعلم والشارة. وقد يشترك حاكمان في رمز واحد مثل غليون تشرشل وغليون السادات، وكلاهما أرستقراطي. ولا تخص الرموز الساسة العرب وحدهم، بل هي عامة لدى كل الشعوب وفي نظم الحكم التي تمر بأزمات داخلية أو تواجه تحديات خارجية لتجميع القوى وشحذ الهمم، وتوجيه المقاصد والغايات بصرف النظر عن مستواها من التقدم أو التخلف. والعلَم هو الرمز الأشهر والأكثر مباشرة، باللون أو الصورة. المطرقة والسندان على خلفية حمراء في النظم الاشتراكية اعتزازاً بالعمال والفلاحين، أي الطبقة العاملة التي تكون صلب الطبقة المنتجة. والطلبة والعمال والفلاحون رافعوا الأيادي في النظم الاشتراكية كذلك وفي الفنون التشكيلية رمزاً للطبقة العاملة، وكما غنى الشيخ إمام "عمال وفلاحين وطلبة" في أغنيته الشهيرة "شيد قصورك عالمزارع"، وهو ما يسمى في الأدبيات الاشتراكية طبقة "البروليتاريا". والعلم المثلث الألوان هو الأشهر منذ الثورة الفرنسية، الأحمر والأزرق والأبيض، وفي ألمانيا الأحمر والأصفر والأسود، وفي هولندا الأحمر والأزرق والأبيض مثل فرنسا ولكن بالعرض وليس بالطول. وهي الألوان الثلاثة التي سادت الأعلام العربية بعد الثورات العربية الأخيرة منذ منتصف الخمسينيات وفي وسطها نجوم بعدد الدول العربية المتحدة معا كما كانت مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة، أو مصر وسوريا والعراق واليمن. الأحمر لون الثورة، والأسود لون العهد البائد، والأخضر لون الأرض الزراعية. والدائرة بأشكالها المختلفة تغلب على أعلام كوريا واليابان دلالة على القمر. وفي الدول الإسلامية غلب على أعلامها الهلال والنجوم الثلاثة والأرضية الخضراء، كما هي الحال في علم مصر قبل الثورة، وفي علم تركيا وباكستان حالياً، الأخضر رمزاً للزراعة والهلال والنجوم رمزاً للشهر القمري. وفي بعض الدول العربية توضع الرموز الجغرافية مثل شجرة الأرز على العلم اللبناني. والبعض قد يضع الرموز الدينية مثل العلم العراقي بعد حرب الخليج الثانية عندما أضيفت عبارة "الله أكبر" على العلم المثلث الألوان. والبعض يأخذ رموزاً دينية مثل علم المملكة العربية السعودية ذي الأرضية الخضراء والسيفين وعبارة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" دليلًا على الإسلام كدين للدولة. وقد كان شعار مصر القديمة الكاتب المصري الجالس القرفصاء وفي حجره كتاب، سجل الدولة والديوان أم العلم وكتاب الموتى. وقد تفضل بعض أعلام المنظمات الشعبية صور الزعماء والقادة والأبطال مثل صور جيفارا أو ماركس ولينين وستالين وماو. وقد تفضل أخرى الرمز المجرد مثل قبضة اليد رمزاً لقوة الشعب أو جماهير ثائرة رافعة أيديها رمزاً لحركات الشعوب ضد الطغاة. والأهم من هذه الرموز وأخطرها على الثقافة السياسية هي العصا. فقد يمسكها الحاكم بيده ويهزها إلى أعلى عدة مرات أو يهبط بها إلى أسفل ثم يرفعها إلى أعلى كأنه يضرب أعداءه في الخارج أو خصومه السياسيين في الداخل. وهي أيضاً رمز لقوة "روميل" القائد العسكري النازي حتى أنها أصبحت صفة مميزة له "عصا روميل". كما توكأ عليها السادات، وهو في كامل صحته رمزاً لكبير العائلة وشيخ العشيرة مع الجلباب والقفطان والطاقية وهو يسير في الريف أسوة بمشايخ البلد والعمد ووجهاء القرية. وحاكم آخر يرفعها إلى أعلى ويخفضها إلى أسفل، يأمر بها وينهى. "العصا لمن عصى" كما يقول المثل الشعبي. وقد يرقص بالعصا ساعة الفرح كما هي الحال في الأفراح الشعبية من أولاد البلد أو في لعبة "التحطيب" عندما يتقارع البطلان الشعبيان بالعصي. يفرح بها حتى لو سقط غريمه. والشعب يبادله عصا بعصا، وضربة بضربة، تحية بتحية، وفرحاً بفرح، وتكون اللغة المشتركة بينهما هي لغة العصي. وفي الثقافة الشعبية تفعل العصا الأعاجيب، وتقوم بالمعجزات في الدفاع عن النفس وفي اتقاء ضربات الآخرين. وفي القرآن الكريم أيضاً لها وظيفتان معلومتان، (أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا) في حالة المرض أو كبر السن (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي) في الرعي، (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) لا ندري ما هي؟ وهي أيضاً مذكورة أكثر في عصا موسى. هي عصا معجزة. يضرب بها موسى الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً، (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا). وألقاها موسى في البحر فانفلق فسار موسى فيه. فلما تبعه فرعون انطبق البحر عليه فأغرقه هو وجنوده، (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ). وأكثرها فعلاً تحولها إلى ثعبان كبير يبتلع ما ألقاه سحرة فرعون من عصي تحولت إلى حيَّات صغيرة، (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ). والعصا تبعث على الخوف والفرار، (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ). ولما ألقى موسى العصا تحولت إلى ثعبان مبين، (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ). وكل فرد من بطانة فرعون لديه عصا يلقي بها فإذا هي حية تسعى مستمدين قوتهم وسحرهم من قوة فرعون وسحره، (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ). وتظل العصا والحذاء في الثقافة العربية رمزين. الأولى للعلو، والثاني للسفل. الأولى للرفع، والثانية للخفض. الكرامة الوطنية ترفعها العصا، وقرار الاتهام الدولية يطؤه الحذاء. وهناك رموز أخرى للمثقف الوطني وهو صاحب السلطة الاجتماعية في وطنه "العمة" للشيخ الذي يمثل التراث القديم، والهوية والأصالة ضد التغريب والتمييع، والقبعة التي تمثل الحداثة الوافدة من الغرب والتي تتمثلها النخبة، وتتخوف منها الجماهير، والطربوش الذي يتمثله الأفندي موظف الدولة البيروقراطي المحافظ على النظام والقانون. والصراع ما زال دائراً بينها لصالح عاري الرأس الذي يرفض النماذج الثلاثة ليبدأ حياة جديدة ما زال يبحث عن هوية لها. وهو في انتشار بعد تواري القبعة والطربوش وانحسار العمة. والعصا ما زالت موجودة في يد المعلم بالمدرسة، والمفتش بالفصل والناظر بالفناء. وما زالت رمزاً في الجيش كلما علت الدرجات. وهي في يد رب الأسرة لتربية الأبناء. وتتحول في يد الشرطي إلى "خرزانة" يضرب بها المتظاهرين في الشوارع. وتصبح "النابوت" في يد الفتوة في الحارة يردع بها الخصوم كما هو الحال في ملحمة "الحرافيش". وما زال رسامو الكاريكاتير يرسمونها مرشوقة بالمسامير لتضرب وتجرح، ترجع إلى بيت الطاعة وتؤذي، تضرب وتسيل الدماء. فثقافة العنف بلا حدود. يبدأ بالعصا وينتهي بالبندقية.