التعصب الأيديولوجي والمراوغة الفكرية!
المتأمل في أحوال الحوار السياسي العربي لابد له أن يكتشف أنه يمر بأزمة عميقة. وذلك لأن الحوار يفترض أول ما يفترض أن المتناظرين حول قضية سياسية ما، لابد لهم إذا ما انتهت جولات الحوار أن يغيروا بطريقة جزئية أو شاملة من بعض قناعاتهم، أو يعدلوا من اتجاهاتهم في ضوء تفاعلات الحوار. والسؤال الآن، لماذا يمر الحوار السياسي العربي بمرض العقم والجمود؟ نلحظ ذلك في عديد من البلاد العربية، وسواء كان الحوار بين المثقفين والسلطة، أو بين المثقفين من اتجاهات مختلفة.
وحين تأملت في سبب عقم الحوار، أدركت أن هناك سببين رئيسيين وهما التعصب الأيديولوجي من جانب، وأساليب المراوغة الفكرية من جانب آخر.
والتعصب الأيديولوجي يعني -من بين ما يعنيه- أن الطرف المحاور الذي يصدر عن أيديولوجية سياسية معينة، يعتقد وهماً أنه يمتلك الحقيقة المطلقة! وبالتالي فإن خصمه السياسي لابد أن يكون على خطأ، مهما قدم من حجج، أو عرض من وقائع. وبالتالي حين يدور الحوار فإن أصحاب الحقائق المطلقة ليس لديهم أدنى استعداد لقبول فكرة أن الممارسة الأيديولوجية للتيار الذي يعتنقونه شابتها أخطاء في المنطلقات أو في التطبيقات، لأنها أصبحت في أذهانهم أشبه بالعقائد المقدسة التي لا يمكن أن تنطوي على أي نقيصة، سواء في النظر أو في العمل، حتى لو كان حكم التاريخ على سلبيات الممارسة واضحاً وضوح الشمس، ومنطلقاً من اعتبارات موضوعية لا تحيز فيها.
أما المراوغة الفكرية فهي مرض آخر من أمراض الحوار السياسي العربي المزمنة. لأن من يمارسونه من المثقفين يزيفون الوقائع عامدين متعمدين، ويتجاهلون إقامة علاقات السببية بين المقدمات والنتائج، ويهوّنون من أخطر الممارسات، في حين يهولون من أبسط الأخطاء.
لماذا أسوق هذا الحديث عن أمراض الحوار السياسي العربي؟ أسوقه لأنني تعرضت بمناسبة مقالين لي أحدهما نشر في الأهرام وصحف عربية أخرى عن "أزمة التقييم التاريخي" في 16 أبريل 2009، والثاني نشر في جريدة "المصري اليوم" عن "خريطة معرفية للأمن القومي المصري".
وقد أدار الحوار السياسي معي حول المقال الأول مثقف ناصري معروف هو "محمد يوسف"، الذي نشر تعقيباً في جريدة "العربي" بتاريخ 17 مايو 2009 عنوانه "السيد يسين وكامب ديفيد والديمقراطية". أما المقال الثاني فقد أدار الحوار السياسي معي "دكتور ياسر شحاته" في جريدة "العربي"، في التاريخ نفسه في عمود بعنوان "تأملات حزينة". والواقع أن التعقيب الأول نموذج بارز للتعصب الأيديولوجي، أما التعقيب الثاني فقد أثبت كاتبه أنه خبير في فنون المراوغة الفكرية!
ماذا قال التعليق الأول؟
من بين الأحكام الجارفة الظالمة في مجال التقييم التاريخي لأنور السادات -على سبيل المثال- أنه "سلم فيها تاريخ وتراث ولغة وآمال مصر والأمة العربية إلى أميركا لتفعل بذلك كله ما تشاء دون معقب"! أهكذا يقيم إنجاز "السادات" وأهمه على الإطلاق قراره التاريخي بشن حرب التحرير على إسرائيل، وعبور خط بارليف المنيع، بناء على تخطيط استراتيجي رفيع المستوى، والاعتماد على أعظم الكفاءات العسكرية المصرية التي حققت ومعها طوائف الشعب المصري الانتصار على الدولة الإسرائيلية في حرب أكتوبر المجيدة عام 1973؟ وأهم من ذلك كله أنه حقق بالتفاوض الفعال ما لم تحققه الحرب، وهو جلاء القوات الإسرائيلية عن سيناء التي حررتها المعاهدة شبراً شبراً، وبعد ذلك حصلنا على طابا وهي مصرية تماماً من خلال التحكيم في عهد الرئيس حسني مبارك.
وقد تعجبت لأن "محمد يوسف" أراد عامداً متعمداً أن يلغي الإنجازات الفكرية والسياسية للقوى الوطنية قبل ثورة 1952، ويدعي أنها لم تقدم أي شيء إيجابي، وأن الثورة فقط هي التي "اخترعت" من عندياتها المبادئ الستة الشهيرة لها، مع أنها لم تكن -وهذا ما يشرفها في الواقع- إلا انعكاساً للفكر النقدي المصري قبل الثورة، والذي قامت به طلائع المثقفين المصريين من أهل اليمين وأهل اليسار معاً! ومن أعجب العجب أن يدعي الكاتب أن ثورة يوليو حققت الديمقراطية كاملة لأنها ركزت على العدل الاجتماعي، وتناسى الحقيقة وهي أن الدولة الناصرية تحولت منذ عام 1964، على الأقل، إلى دولة بوليسية، تفرض أنواعاً متعددة من القمع السياسي على الجماهير، بحكم مراكز القوى التي صعدت وتناحرت فيما بينها.
أما صاحب "التأملات الحزينة" الذي أدار حواراً حول نصرالله و"حزب الله" والأمن القومي المصري، فقد كان كريماً معي في الواقع لأنه تلطفاً لم يذكرني بالاسم، واكتفى بأن يطبق في حواره بعبقرية فذة كل أساليب المراوغة الفكرية! وقد اقتدى في الدفاع عن جريمة "حزب الله" في إنشاء خلية لوجستية في سيناء بأمر مباشر من نصرالله -وفق اعترافه العلني في خطاب له- أسلوب كاتب مرموق من أنصار تيار الإسلام السياسي، الذي لا يؤمن بقدسية الحدود المصرية، ويرى ضرورة فتحها وتجاوزها لأي عابر سبيل باسم "المقاومة"! فقد قال إن ما فعله نصرالله غايته نبيلة، غير أن وسيلته كانت خاطئة!
فلنرَ الآن حكاية الغايات الثورية النبيلة!
إن مقالتي عن "خريطة معرفية للأمن القومي المصري" التي أدار الكاتب الثاني حواره معي حولها، كانت محاولة أكاديمية للتعريف العلمي الدقيق بنظرية الأمن القومي عموماً، وبثوابت الأمن القومي المصري خصوصاً. ولذلك لا يصلح الكُتاب الهواة الذين لا يعرفون أبجديات الدراسات الاستراتيجية للتعليق عليها، وخصوصاً حين يدفعهم الهوى للدفاع الباطل عن جريمة "حزب الله"، والخطأ السياسي الذي ارتكبه نصرالله.
ومن العجيب أنه يلفت نظرنا إلى أن إسرائيل هي العدو الرئيسي لنا، ومن أنكر ذلك؟ فعليه أن يعيد قراءة مقالي عن الأمن القومي الذي ذكرت فيه عدة مرات أن إسرائيل أحد مصادر التهديد للأمن القومي المصري. وأريد أن أقرر له ما لا يعرفه على وجه الإطلاق وهو أن هذه هي العقيدة العسكرية المصرية حتى اليوم على رغم المعاهدة، لو كان يعرف ماذا تعني العقيدة العسكرية.
وهو في دفاعه عن "حزب الله" يتناسى في الواقع ثوابت الوطنية المصرية التي لا تقبل المساس بحدود مصر، ويتجاهل أبجديات الأمن القومي المصري، ويتحدث وكأن سيناء أرض مستباحة لأي دعيِّ يرفع شعارات "المقاومة"، ولو كان لبنانياً أو سورياً أو عراقياً أو يمنياً على سبيل المثال، وذلك لمساعدة الفلسطينيين في غزة. كيف يمكن قبول هذا المنطق المتهافت؟
بل لقد وصلت به استهانته بالأمن القومي المصري إلى أن يقترح سيناريو لم يدرك -للأسف الشديد- أنه سيناريو إسرائيلي لاعتبار سيناء هي "الوطن البديل" للفلسطينيين، وهي فكرة قديمة. وقال سيادته بالحرف الواحد "العرف الدولي أن تفتح دول الجوار حدودها للشعوب المنكوبة من الحروب أو الكوارث الطبيعية وتستقبلهم وتنظم لهم مستعمرات إيواء حتى تنتهي الأسباب".. "أما أن تقفل دولة حدودها على هؤلاء المساكين بحجة الأمن القومي فإن هذه سابقة مشينة ولاأخلاقية.. والمحزن أن هذه السابقة تخرج من مصر وضد شعب عربي شقيق وحليف". وهكذا وصلت المراوغة الفكرية للكاتب إلى أن يقترح فتح الحدود المصرية أمام جحافل الفلسطينيين، وإقامة مستعمرات إيواء لهم إلى أن ينتهي الصراع العربي/ الإسرائيلي، ولو بعد أربعين أو خمسين عاماً! أليس هذا هو السيناريو الإسرائيلي للوطن الفلسطيني البديل؟
ونقول لهؤلاء المتعصبين أيديولوجياً، إن الحقائق عن نقص الديمقراطية في العصر الناصري مسجلة موضوعياً، أما المراوغون فكرياً فلديهم مشكلة كبرى وهي أن المسلّمات التي قد يصدرون عنها من باب الحماس العاطفي أو عدم المعرفة، أو إنكار الثوابت الوطنية، قد توقعهم -كما حدث- في براثن الفكر الإسرائيلي العنصري بغير أن يشعروا، ولذلك يروّجون لفكرة الوطن البديل والتي تعني في الواقع الاستعمار الفلسطيني لسيناء المصرية!