من يتأمل الحركات الإسلامية والعنف المرتكب باسم الدين في المغرب والجزائر اليوم، قد يغفل عن الامتداد التاريخي الطويل لاستغلال الدين والقبيلة في هذه المناطق الصحراوية والجبلية، وظهور "مهدي" خلف آخر. وقد احتل رجلان بارزان في تاريخ المغرب مكانة خاصة، هما يوسف بن تاشفين اللمتوني (1019 - 1106)، وأبو عبدالله محمد بن تومرت الملقب بالمهدي (1080 - 1129). وقد شاد الأول صرح الدولة المرابطية الشامخة، التي سطعت في المغرب والأندلس لمدة قصيرة، ثم انهارت دعائمها كما قامت بسرعة مدهشة، فأقام ابن تومرت وخلفاؤه على أنقاضها دولتهم العظيمة التي عرفت بدولة الموحدين، وذلك حسب ما ورد في كتاب تراجم إسلامية لمحمد عنان. وقد بدأت المسيرة نحو دولة الموحدين عندما رحل زعيم إحدى قبائل البربر الكبرى "يحيي الكدالي" برحلة الى المشرق لطلب العلم، وقضاء فريضة الحج. ولما عاد استقدم معه من القيروان فقيهاً داعية هو "عبدلله الجزولي"، سرعان ما استمال بقية القبائل وأعلن الجهاد وشن الحرب على من رفض الخضوع. ولما اتسع ملكها تولى ابن ياسين الزعامة الدينية وتولى يحيى زعامة الجيوش. وانتقلت الزعامة بعد فترة الى يوسف بن تاشفين، الذي بث جيوشه في مختلف أنحاء المغرب، وأخذت جيوش المرابطين تحارب القبائل الخصيمة، وسرعان ما استولى على طنجة، وبسط حكمه على جميع أقطار المغرب، من تونس شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً، وتلقب بوصف بأمير المسلمين. وكانت الأندلس خلال هذه المرحلة في أسوأ وضع وأشد انقسام، حيث سقطت البلاد فريسة لمشاكل لا تحصى، وتواثب الزعماء الطامحون إلى الرئاسة فتقاسموا أشلاءها، فدخلت الأندلس مرحلة "دول الطوائف". وبدأ ملك قشتالة "الفونسو السادس" القوي البأس بالزحف عليها، وبالفعل سقطت "طليطلة"، وصار يهدد المدن الأخرى. وهنا استغاث ملوك الطوائف بيوسف بن تاشفين الذي سار الى الأندلس بجيوش عظيمة، تلاقت مع جيش الفونسو في معركة تسميها الكتب العربية "معركة الزلاقة". واشتبك الفريقان في هذه الموقعة الهائلة وكادت قوى الأندلس التي تؤيدها طلائع المرابطين أن تسحق في البداية، ولكن يوسف هزم الأعداء هزيمة ساحقة. وهكذا كتب للأندلس حياة جديدة في ظل الحكم الإسلامي امتدت أربعة قرون أخرى. وعاد يوسف إلى المغرب، لكنه لم يلبث أن عاد إلى الأندلس عدة مرات للحرب والدفاع. غير أنه قرر هذه المرة القضاء على ملوك وأمراء الأندلس، فنجح في ذلك خلال ثلاث سنوات، واستطاع البربر لأول مرة منذ فتح الأندلس، أن يفرضوا سلطانهم عليها كلها. عاش يوسف بن تاشفين حياة متقشفة، امتدت قرابة المائة عام بعد أن حكم زهاء خمسين سنة. غير أن دولته لم تعمر طويلا بعد موته، حيث حكمها ابنه علي، ولم تمض ثلاثون عاماً أخرى، حتى سقطت هذه الدولة العظيمة الشامخة فريسة لفورة دينية أخرى، كان مثير ضرامها أبو عبدالله محمد بن تومرت الملقب بالمهدي، مؤسس دولة الموحدين الكبرى. ويقول المؤرخ عنان إن التاريخ الإسلامي، قلما يقدم إلينا حركة أكثر تواضعاً في بدايتها، وأبعد مدى في نتائجها من تلك الحركة التي قام بها "محمد بن تومرت"، المتشح بثوب المهدي، والتي أسفرت عن قيام دولة هي الدولة الموحدية الكبرى. كانت حركة ابن تومرت هي الثانية من نوعها في الغرب الإسلامي، وكانت الأولى هي حركة شيعية أسفرت عن قيام الدولة الفاطمية في تونس، وكان زعيمها الروحي يتشح كذلك بثوب المهدي المنتظر. غير أن حركة ابن تومرت لا علاقة لها بالفاطميين وحركتهم. كان ابن تومرت من أصل بربري معروف ولكنه تبنى نسباً هاشمياً يصله بالإمام علي بن أبي طالب. وكان الكثير من القبائل والأسر البربرية التي تشق طريقها الى السلطان، تحاول دائماً أن تنتحل الأنساب العربية. وقد نشأ في بيت نسك وعبادة، وكان يسمى في حداثته "أسافور"، أي الضياء، لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد التي يلازمها. وقد تنقل في الأندلس، ثم رحل الى المشرق. بدأ ابن تومرت نشاطه الدعوي، وهو في طريق عودته من المشرق. فقد أثار الشغب بالاسكندرية في مطاردته للمنكر، ويبدو أن "السلطات المصرية" آنذاك قد نفته الى المغرب في سفينة. بيد أنه استمر في دعوته الى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهو على ظهر السفينة التي أقلته. فألزم ركابها بإقامة الصلاة وقراءة القرآن، واشتد في ذلك حتى قيل إن ركاب السفينة ألقوه الى البحر، فلبث أكثر من نصف يوم يسبح الى جانبها دون أن يصيبه شيء، فلما رأوا ذلك أنزلوا إليه من رفعه من الماء، وقد عظم في نفوسهم، وبالغوا في إكرامه. ولما وصل الى "المهدية" بتونس، كان إذا شاهد منكراً من آلات الملاهي والطرب، أو أواني خمر، بادر الى كسرها. وواصل ابن تومرت في الحاضرة المرابطية مراكش نشاطه الدعوي وكان ينتقدهم كذلك بسبب سفور النساء واتخاذ الرجال اللثام. ورأى أمير المسلمين أن يناظر الفقهاء هذا الرجل. وكان الفقهاء المرابطيون يحقدون على ابن تومرت لاعتناقه مذهب الأشعرية، ولهجومه الدائم على مذهبهم السلفي وتكفيرهم. فأغروا الأمير باستدعائه للمناظرة معهم فلم يتفقوا عليه، ثم أوعز أحد الفقهاء للأمير بأن هذا الرجل، "لا يبغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه يبغي تضليل العامة، وإثارة الفتنة، والوصول الى السلطان، وأشار عليه بقتله". ولكن أحد رجال البلاط أعطاه فرصة النجاة. غادر ابن تومرت مراكش الى مدينة "اغمات"، وقيل بل استمر حيناً في صحبه بين مقابر المدينة، وينهال عليه الناس والطلاب، وهو يبث فيهم الدعوة ضد المرابطين ويرميهم بالتجسيم والكفر، ولكنه اضطر أن يغادر مكانه حينما بلغه أن القوم يضمرون اعتقاله وقتله. ولما ضاق عليه المجال لجأ لمناطق قبائل البربر، وهنالك انهال عليه أهل جبال المصامدة من كل فج، وهو يدعوهم إلى التوحيد، وإلى قتال "المجسمين المرابطين"، أي الذين يؤمنون بأن لله يداً ورجلا وجسماً كما يفهم من ظاهر بعض الآيات القرآنية والأحاديث. وكان يعني بالأخص بأن يشرح لأنصاره وتلاميذه نظرية المهدي المنتظر، والإمام المعصوم، وبعث الخاصة من أتباعه ودعاته بين رؤساء القبائل يمهدون لتلك الدعوة ويبشرون بها. ولما شعر ابن تومرت بأن دعايته قد أتت ثمرتها، وأضحى الميدان ممهداً للعمل، اعتزم أن يعلن إمامته، وقام يوم الخامس عشر من رمضان عام 515 هـ خطيباً في أصحابه، وأعلن إليهم أنه المهدي المنتظر. ووضع "ابن تومرت" لأتباعه في التوحيد كتاباً باللغة البربرية سماه "المرشدة"، وقال لهم "إن من لا يحفظ هذا التوحد فليس بموحد، وإنما هو كافر لا تجوز إمامته، ولا تؤكل ذبيحته". فصار هذا الكتاب من أجلّ الكتب لديهم. ووضع لهم بالبربرية كتباً أخرى في العقيدة والإمامة بالعربية، حيث كان أبرع أهل زمانه في إتقان اللغتين. ومن كتب ابن تومرت الأخرى في الدعوة كتابان بارزان، الأول "أعز ما يُطلب" و "الموطأ"، وهو يرى أن الشريعة لا تثبت بالعقل، بل بالنقل، وأن أصولها تنحصر بالقرآن والسنة، ولا اعتبار للقياس والإجماع، كما وينكر الاجتهاد، بل ويحمل عليه، وهو إنكار منطقي منه، فهو يتشح بثوب الإمام المعصوم الذي لا تُبحث آراؤه. ويعرض ابن تومرت نظرية المهدي المنتظر بقوة وحماس، ويهدد من تسول له نفسه مخالفة المهدي أو الشك في أمره. ولقد أُخذت بما ينقله بحاث تاريخ الأندلس محمد عبدالله عنان من أحاديث الرواة في وصف ابن تومرت، إذ رأيت فيه بعض صفات أمراء العنف والجهاد اليوم في المغرب والجزائر! فقد كان ابن تومرت، كما تصفه الرواية رجلا ربعةً أسمر، عظيم الهامة، غائر العينين، حديد البصر، خفيف العارضين، وكان خطيباً مفوهاً، يستميل الجموع برائع بنيانه ووعظه، شديد التقشف والزهد. وهكذا استفاد الى أقصى حد من ذلك المجتمع الساذج الذي اختاره مسرحاً لدعوته. ولكن ابن تومرت إلى جانب هذه الصفات الخلابة، "شديد التعصب، صارم النفس، سفاكاً للدماء، غير متورع فيها ولا متحوط، ويهون عليه سفك دم عالم من الناس في سبيل رأيه وبلوغ مقصده، لا تأخذه شفقة ولا رحمة في دماء خصومه، ويستحل سبي نسائهم وأولادهم ونهب أموالهم". ويقول عنه ابن خلدون إنه كان "حصوراً"، أي عاجزاً من الناحية الجنسية، لا يأتي النساء. ولعل في هذا بعض ما يفسر عوامل هذه القسوة المروعة، وهذا الظمأ الى سفك الدماء. ورغم هذا، كما يقول عنان، "لبث قبر ابن تومرت عصوراً طويلة مزاراً شهيراً يحج إليه المؤمنون من كل صوب، ويخصه ملوك الموحدين بأعظم آيات الإجلال". وما أشبه ماضي المسلمين.. بحاضرهم!