نعرف جميعاً إقرار الباحثين الغربيين بمكانة المؤرخ الكبير "ابن خلدون"، ولكن مالا يعرفه الكثيرون اختلاف الباحثين العرب والمسلمين فيه، وتباين آرائهم حول مدى أصالة فكرة وطبيعة نزعته، ومكانته ضمن التراث الثقافي العربي. فابن خلدون، كما يلاحظ د. محمود أمين العالم، "عند دارسٍ، ليس بصاحب نظرية علمية أصلا، وإنما هو مجرد واصف طوبوغرافي لأحداث المغرب في عصره، وهو عند دارس آخر رائد للمادية الجدلية والمادية التاريخية، وهو عند دارس ثالث مجرد امتداد للمدرسة المشائية والأفلاطونية الجديدة في الفكر العربي الإسلامي، وهو عند رابع مناقض لهاتين المدرستين وامتداد للفكر الأشعري أو الغزالي خاصة، وهو عند خامس انقطاع كامل عن المنطق الصوري الأرسطي، وهو عند دارس سادس يتخذ من الدين تقية، أو أن الدين عنده على الأقل ليست له الصدارة في تفسير نظرياته، بل لعله يتركه على عتبة نظرياته العقلانية، وهو عند دارس سابع متدين عميق التدين، وليست نظرياته التاريخية الاجتماعية إلا امتداداً وتجسيداً لرؤيته الدينية ... وهكذا، وذلك وفق ما ورد في ورقة د. فتحي أبو العينين في كتاب قراءات في الفكر العربي. حاول ابن خلدون أن يوجز مسار الحضارات. وذهب في مقدمته العميقة إلى أن نشوء وزوال الدول يمكن تفسيرهما وفقاً لحتمية تاريخية، "حيث يعتقد أن الدول تقوم أساساً معتمدة على قوة الجيل الأول المؤسس، الذي لديه التصميم والقوة على إقامة الدولة، ثم يلي ذلك الجيل الثاني الذي يتمتع بالاستقرار والرفاهية التي تركها له الجيل الأول، ثم يأتي الجيل الثالث فينمو نحو الدعة والترهل والافتتان بالماديات، فيأخذ البنيان المعنوي في الضعف تدريجياً وتسقط الدولة إما نتيجة الضعف الداخلي أو أمام أعداء أقوياء من الخارج يتربصون بها ويراقبون ضعفها. ومما هو مساير لأوضاع العالم الاقتصادية في أزمته الحالية شرحه لأسباب الكساد الاقتصادي في الفصل الثاني والأربعين من المقدمة. فيقول بأن الكساد ناتج عن عدم قيام الحكومة بالانفاق، "لأن الدولة هي السوق الأعظم، أُمُّ الأسواق كلها وأصلها، فإن كسدت وقلت مصارفها، فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه. فالمال إنما هو متردد بين الرعية، والسلطان منهم إليه، ومنه إليهم، فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية". نسب الكثير من الباحثين إلى ابن خلدون ريادته في علم الاجتماع. وهذا ما رفضه عميد الأدب طه حسين قبل تسعين سنة! ففي عام 1917 قدم طه حسين، بوصفه مبعوثاً مصرياً للدراسة في فرنسا، رسالة جامعية للحصول على الدكتوراة في قسم الفلسفة بجامعة باريس، وكان موضوع الرسالة هو "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية". ويضيف د. أبوالعينين، أن هذه الدراسة قد أثارت ردود فعل واسعة في الحقل الفكري العربي، واختلفت حولها الآراء ما بين متحمس لها ومعجب بجرأتها، وناقد لها وساخط عليها وعلى صاحبها. ويقول طه حسين إن ابن خلدون بتأليفه مقدمته لا يعد مؤسساً لعلم الاجتماع أو حتى مبشراً بعلم الاجتماع الحديث. ويمتدح طه حسين مع هذا ابن خلدون في فصله السياسة عن الأخلاق والقانون واللاهوت، وسعيه إلى وضع علم مستقل له موضوع خاص وله مسائله وغاياته. ولكن هل يكفي هذا لأن نمنح هذا العلم لقب "علم الاجتماع"؟ ويجيب طه حسين: "إني أعتقد أن ذلك يكون مبالغة كبيرة.. لأن موضوع بحث ابن خلدون، وهو الدولة، أضيق من أن يصلح موضوعاً للاجتماع، فهو جزء منه وذلك الجزء أبعد من أن يكون كلا له". وكان طه حسين في موقفه هذا يرد على بعض المفكرين الأوروبيين الذين اعتبروا صاحب المقدمة "المؤسس الأول لعلم الاجتماع"، ومنهم الايطالي "فريرو" عام 1896 والبولندي "غمبلوفيتش" عام 1905. ويرى طه حسين أن ابن خلدون يعتبر المجتمع موضوعاً للتاريخ، مثلما يعتبره موضوعاً لعلم العمران، وقد كان المجتمع قبله موضوعاً للأخلاق، وهو في عصرنا موضوع لعدة علوم، و"لا يكفي أن يدرس الإنسان المجتمع من وجهة نظر معينة ليقال إنه يدرس علم الاجتماع، إذ يفقد هذا العلم عندئذ صفته كعلم مستقل ولا يصبح سوى اسم غامض يطلق على كل العلوم الاجتماعية". ويشيد طه حسين بعمق آراء ابن خلدون، ولكن لا ينتقص من قدره أن نقرر "أن ما بالمقدمة تلمس لعلم الاجتماع وليس هو العلم نفسه". ويأخذ طه حسين على ابن خلدون أنه لم يكن له رأي واضح في ما يميز المجتمع عن الأفراد. كما يعيب على ابن خلدون أنه يدرس المجتمع ليشرح التاريخ، في حين أن علم الاجتماع، لكي يوصف بأنه علم، يجب أن يكون مستقلا. ويحاول الباحث فتحي أبوالعينين أن يشرح خلفية هذا الموقف الفكري فيقول: "نحن لا نظن أن طه حسين كان يضمر العداء أو يقصد الإساءة إلى فكر إبن خلدون، بدليل إبرازه لكثير من النواحي الإيجابية في المقدمة، بل بدليل تأثر طه حسين نفسه ببعض أفكار ابن خلدون". غير أن من الواضح، يضيف قائلا، "إن طه حسين في آرائه هذه متأثر تماماً باتجاه المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع، وبخاصة آراء إيميل دوركايم الذي كان أحد المشرفين على رسالة طه حسين، بالاشتراك مع كازانوفا أستاذ الأدب العربي في السوربون". ومن الباحثين العرب الذين انتقدوا ابن خلدون د. محمد عابد الجابري. ويرى الجابري أن القراءات المعروفة للتراث لا تخرج عن ثلاث: "سلفية" تتمركز حول كيفية استعادة مجد الماضي وإحياء التراث، و"استشراقية" تعالج التراث من الخارج ضمن مناهج مؤطرة أيديولوجياً برؤى تمليها نزعة التمركز حول أوروبا، و"ماركسية" تأخذ هذه الأيديولوجية كمقولات وقوالب جاهزة جامدة، وتصنف التراث الفكري العربي إلى اتجاهات "مثالية" وأخرى "مادية". ويحظى ابن خلدون باهتمام خاص من جانب الجابري، ويشيد بجهده الفكري، غير أن المشروع الخلدوني في إنشاء علم منضبط لكتابة التاريخ، ظل غير قابل للتحقيق بسبب "التناقضات المنطقية" والعوائق الأبستمولوجية التي انطوى عليها". ففكر ابن خلدون، "كان مؤطراً أشد ما يكون التأطير بالقوالب المنطقية القديمة الأرسطية والأصولية". وهذا يعني أن صاحب المقدمة "أراد أن يُنشئ علماً جديداً بمفاهيم قديمة، علماً يضع نفسه خارج المنظومة الأرسطية، وفي ذات الوقت يستقي من نفس المنظومة مفاهيمه المنطقية وأرضيته الأبستمولوجية". وفي النهاية، بدت آراء ابن خلدون تأويلات، بسبب اعتماده على الاستقراء لا استخلاص النتائج. وهذا هو نفس العائق الذي يمنع المشروع الخلدوني اليوم، يقول د. الجابري، "من أن يكون منطلقاً لمدرسة فكرية عربية أصيلة ومعاصرة". أما الباحث المعروف د. محمود إسماعيل، فقد فاجأ الأوساط الفكرية والثقافية عام 1996 بسلسلة مقالات جمعت فيما بعد في كتاب بعنوان قاس: "نهاية أسطورة: نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا". وأعلن الباحث أن الهدف الرئيسي لكتابه إثبات أن "سائر النظريات المنسوبة إلى ابن خلدون منقولة عن رسائل إخوان الصفا". واخوان الصفا هؤلاء جماعة سرية دينية سياسية فلسفية باطنية عاشت بالبصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. وتقول الموسوعات إنهم وضعوا مذهباً زعموا أنه يؤدي إلى الفوز برضوان الله، ولذلك سموا باخوان الصفا وخِلاّن الوفا. وقد جمعوا معارف عصرهم العلمية والفلسفية والدينية في رسآئل تزيد على الخمسين، وتكون ما يشبه دائرة معارف. واعتقدوا أن الشريعة دنستها الجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، ففيها الحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهاية. "ومتى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة المحمدية، فقد حصل الكمال". وينتقد الباحث أبوالعينين في دراسته حول نقاد ابن خلدون الدعوى التي يقيمها د. إسماعيل في كتابه "نهاية أسطورة"، ويخطِّئ منهجية، ويلومه على المفردات التي يستخدمها بحق شخصية ابن خلدون كمفكر وإنسان، حيث ترد في الكثير من صفحات الكتاب "كلمات مثل جسد الجريمة والميكيافيلية والسطو وغياب الضابط والضمير". كما أن د. إسماعيل يهدد كل من لا يوافقه في رأيه، فيقول: "على أنني أتوقَّع جلبة وصخباً من قبل الأدعياء وأنصاف المتعلمين الذين نصبوا أنفسهم سدنة وكهنة وأوصياء على التراث العربي الإسلامي". ويقول أبوالعينين: "وهذا في رأيي خطاب قمعي يرفض ابتداء منطق الحوار والجدل والدفاع ضد تهم باطلة في أساساها". ولكن هل كان ابن خلدون حقاً واضع أسس "علم الاجتماع" Sociology أم كان هذا من منجزات أستاذ طه حسين، العالم الفرنسي "أميل دور كايم"؟ هذا ما ستختلف حوله الآراء طويلا!