أوباما... توازنات المثالية وبراجماتية القيادة
حتى الأسبوع الماضي، واجه كوميديو السهرات التلفزيونية، صعوبة كبيرة في اختلاق النكات والقفشات عن الرئيس أوباما وإدارته الجديدة. والسبب أن أوباما تحلى بقدر عال من المثالية والكفاءة العملية. وهاتان صفتان إيجابيتان لمصلحة الولايات المتحدة وخيرها، إلا أنهما تمثلان كارثة حقيقية لفنون الفكاهة والسخرية التلفزيونية التي تعتمد عليها هذه السهرات. وبانتخابه خسر الفنانون الكوميديون نبعاً لا يعوض لفنونهم في شخص الرئيس السابق بوش.
وهذا ما أكده قبول أوباما لسحب السيناتور الديمقراطي السابق توم داشيل، ترشيحه لتولي منصب وزير الصحة في الحكومة الجديدة. وكان جي ليون" مقدم برنامج "ليت شو" الشهير، قد أعلن ليلة الاثنين الماضي ما مفاده أن الباحثين يوشكون على الوصول إلى شخصية ما في حكومة أوباما الجديدة، تستطيع سداد ضرائبهم. ووصف ذلك الاحتمال بالقول: ربما توفر هذه الجهود "فتحاً علمياً" مبيناً في مساعي البحث عن بديل كوميدي. ولكن الذي حدث في صباح اليوم التالي مباشرة، هو سحب توم داشيل ترشيحه لتولي ذلك المنصب، ليعقب تلك الخطوة إعلان أوباما مسؤوليته التامة عن وعده بتغيير النمط الذي كانت تمضي عليه شؤون الحكم والسياسة في واشنطن. وفي إطار قبوله لسحب ترشيح توم داشيل، قال أوباما إن الخطأ المبدئي الذي ارتكبه ليس هو ترشيحه لداشيل لتولي منصب وزير الصحة، رغم كل ما يعرف عن السيناتور السابق من مشكلات ضريبية، وتلك التي ربما تنشأ بين وزارة الصحة وعملائها بسببه، وإنما يكمن الخطأ في سوء تقديره -أوباما- لردة فعل الجمهور إزاء ذلك الترشيح. وقال أوباما بالحرف لشبكة "سي. بي. إس": لقد أخطأت في تقديري لفهم الجمهور العام لشخصية توم داشيل.
وأقل ما يمكن أن يوصف به أوباما هو النزاهة والصدق في التعامل مع الجمهور. فالقرار الذي اتخذه بقبول انسحاب "داشيل" لم يكن نتيجة لوعي أخلاقي مفاجئ بشخصية "داشيل"، إنما بني على حكم سياسي أمين عليه. وفي ذلك الحكم ما يعبر عن خصائص الشخصية المثالية لأوباما ونزعته البراجماتية، وهما ما يجعلان منه سياسياً ناجحاً شأنه شأن كافة الساسة الناجحين. فقد كان أوباما على علم منذ عدة أسابيع بخلل الأداء الضريبي لتوم داشيل، إضافة لعلمه بالعقود الاستشارية التي ظل يبرمها منذ عدة سنوات. وعليه فلم يكن السؤال الذي شغل بال أوباما، هو ما إذا كانت تلك السلوكيات أخلاقية أم لا؟ فهو قد أدرك سلفاً أنها لا غبار عليها من ناحيته هو. إلا إنه قرر قبول سحب ترشيحه، ما أن أدرك أن عامة الجمهور لا تشاطره قبول حكمه الشخصي على داشيل. وربما لم يلحظ مؤيدو أوباما هذه الخاصية فيه، غير أن من المؤكد أن النزعة البراجماتية ظلت مبدأً موجهاً للكثير من القرارات التي اتخذها منذ توليه لمنصبه الرئاسي.
ولنضرب مثالاً لتأثير هذه النزعة على قراراته، بتعيينه لتيموثي جاثنر، وزيراً للخزانة. فقد كان لهذا الأخير مشكلاته الضريبية أيضاً. إلا أن أوباما أصاب في حكمه وتقديره، بعدم السماح لمشكلات ضريبية ثانوية، أن تحول دون تعيين جاثنر لتولي تلك المسؤولية الجسيمة البالغة الأهمية التي تتطلب مهاراته وقدراته فعلاً. وبالمثل كان الشخص الثاني في وزارة الدفاع، الذي رشحه أوباما لتولي منصب "مساعد وزير الدفاع" معروفاً بنشاطه بين مجموعات الضغط في الصناعة الحربية سابقاً. إلا أن أوباما أحسن التقدير بتجاوزه لتلك الهنة في السيرة الذاتية للمرشح، ولم يتراجع عن ترشيحه لتولي المنصب.
إلى جانب ذلك فإن لأوباما نهجاً عملياً في التصدي لبعض الوعود التي قطعها لناخبيه منذ أيام السباق الرئاسي. ففي البدء كان قد وعد بقبول التمويل الفيدرالي الحكومي لحملات المرشحين الرئاسيين. إلا إنه تخلى عن ذلك الوعد، ما أن أدرك إمكانية تفوقه في جمع التبرعات لصالح حملته، على أي من منافسيه الآخرين. وبالمثل كان قد وعد بعقد اجتماعات مشتركة مع جون ماكين أثناء الحملة الانتخابية، إلا إنه تراجع عن ذلك القرار حين أدرك أن الوقت قد فات كثيراً على حملة ماكين نفسها. وأثناء الحملة التمهيدية كان قد وعد مؤيديه بالتصويت ضد الحصانة القانونية التي تتمتع بها شركات الهاتف التي تعاونت مع برنامج بوش الخاص بالتنصت على المكالمات الهاتفية للمواطنين. ولكن تغير موقفه حين تصادف إجراء التصويت إبان الحملة الانتخابية العامة. وبالمثل كان أوباما قد وعد خلال سباقه الرئاسي، بسحب القوات الأميركية من العراق خلال 16 شهراً من توليه الرئاسة. أما اليوم فنراه يقول إن الجدول الزمني لانسحاب القوات، تحدده بالدرجة الأولى الظروف الميدانية على الأرض.
وليست ثمة مصادفة واحدة في هذه القرارات، وهي ليست سيئة بالضرورة مثلما يرى البعض. بل إن من الضروري أن يتجاوز بعض مؤيديه نظرتهم المثالية إليه كما لو كان قديساً لا تتبدل قناعته ولا مواقفه. فأوباما لا يختلف في قراراته هذه عن سابقيه من الرؤساء "الديمقراطيين" الناجحين، وهؤلاء كثيراً ما حافظوا على درجة من التوازن الذي تفرضه الممارسة الرئاسية، بين مثاليتهم والنزعة البراجماتية العملية التي تفرضها عليهم مسؤوليتهم القيادية. فقد كان ذلك هو شأن سابقيه من الرؤساء الأفذاذ: فرانكلين دي. روزفلت وجون كنيدي وليندون جونسون وبيل كلينتون.
-------
دويل ماكمانوس
كاتب ومحلل سياسي أميركي
-------
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"