"الأب التراثي"... منهجية هدم الهدم!
في كتاب "هدم الهدم"، لمؤلفه الدكتور عبد الرزاق عيد، نطالع مجموعة من البحوث والدراسات حول "النظام الأبوي" العربي، و"نسق الثقافي المضمر"، وإشكالية "المثاقفة وإنتاج الوعي المطابق"، و"صورة حقوق الإنسان في الفكر العربي الحديث"... موضوعات شتى يجمعها رابط النزوع نحو "إدارة الظهر للأب السياسي والثقافي والتراثي"، كما ينص العنوان الفرعي للكتاب، أي يوحدها هاجس الحرية التي قمعها النظام البطركي العربي، السياسي والثقافي والاجتماعي والتراثي، هذا الهاجس بما يسكنه من رغبة عارمة في مواجهة الوصاية على العقل وفي تجاوز الإجابات المستقرة والمستكينة وراء أسوار المقدس، باسم الدين تارة وباسم وحدة الأمة أو وحدة البروليتاريا تارة أخرى.
يتوقف المؤلف بشكل مطول ومفصل عند النظام البطركي العربي، كما صوره المفكر الراحل هشام شرابي في كتابه الشهير "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي"، مبرزاً خصائص ذلك النظام، وتكوينه الاجتماعي، وأصوله التاريخية، ومآلاته الراهنة، ورهاناته إزاء الحداثة والغرب. وإن كان الدكتور عيد يتبنى طروحة شرابي كلياً، فهو أيضاً يحاول تعميقها من خلال تحليله للنظام الأبوي كبنية سوسيو ثقافية تتضمن منظومات من العلائق الأبوية التي تنتج منظوراً للعالم يقوم على القبول والرضا بهذه التراتبية السلطوية كقانون طبيعي. وهذه الصورة للنظام العربي، بما ينتجه على مستوى البنية الثقافية والروحية واللاشعورية في علاقاته الأبوية الداخلية، ومع المتربول الغربي، هي ما يشكل المحور الأساسي للمعالجات التي يقدمها الدكتور عيد، على اختلافها، في هذا الكتاب.
وفي السياق نفسه يطل المؤلف على تجربة مميزة حاولت كسر النسق الأبوي الفحولي الشعري الطغياني الذي تكثف في صيغة "شعرنة" العقل والفكر والثقافة العربية، أي تجربة الناقد السعودي عبد الله الغذامي في اقتحام عالم الجسد الحريمي لتحريره من "أنساق ثقافة الأوهام" في المجتمع العربي، متمثلا في ذلك منهج النقد الثقافي.
ويبدو أنه كان لا بد من العودة هنا إلى الكواكبي، والذي يعتبره المؤلف أحد الينابيع الأولى، لكونه ضمن أوائل الذين اكتشفوا تعريف "المثقف الحديث"، ولكونه أول من وجه صفعة للاستبداد العربي وكشف أنه سر انحطاط الأمم. وهنا أيضاً يعرج المؤلف على المثاقفة التي لونت تجربة الكواكبي بأبعاد كونية، حين جعل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرجعية، وأدار ظهره للأب السياسي والثقافي والتراثي العثماني.
ويقف المؤلف دون تردد مع جورج طرابيشي في معركة الهدم التي أعلنها ضد "الأب التراثي" كما اخترعه الفكر العربي خلال الربع الأخير من القرن العشرين متمثلا في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري، إذ "نصّب التراث أباً عقلانياً علينا استشارته في كل خطوة نخطوها"، فكانت أولى نصائحه (أي الجابري) التخلي عن العلمانية، أي نبذ كل نتائج الهدم التي بلغها محمد عبده والكواكبي وطه حسين وعلي عبد الرزاق وأحمد أمين... لمنظومة العقل الفقهي النقلي. لذلك جاء مشروع طرابيشي ليشرع في تقويض هذه الأمثلة الأبوية التراثية، مبرهناً على أن العطب كامن في "ذات الذات".
ثم يحاول الكتاب البرهنة على أن إخفاق العلم والتفكير العلمي عربياً، لم يكن إلا بسبب النظام الأبوي الاستبدادي الداخلي، وليس بسبب التآمر الخارجي، إذ أثبتت التجربة التحديثية العربية استحالة التحديث التقني بدون الحداثة المعرفية والسياسية والاجتماعية التي هي فضاء الحرية وبيئة الازدهار العلمي.
من هنا ينتقل الكتاب إلى مستوى آخر من مستويات الحرية، عبر فتح مسامات الروح لتلقي إشعاع الإشراق الإلهي، وذلك من خلال تجربة المفكر العراقي الراحل هادي العلوي، صاحب أول محاولة في مجال "روحنة الإسلام" تصوفياً، بل روحنة المجال السياسي أيضاً، وذلك رداً على العنف الأبوي الطغياني الذي حكم الممارسة السياسية العربية.
ويحاول المؤلف إعادة الاعتبار لمفكر عربي آخر كان من الذين شاركوا في عملية "هدم الهدم"، هو نجيب الريحاني الذي تعرض للتخوين ولاختزال تاريخه التنويري في تاريخ الجاسوسية الأميركية.
وختاماً يبحث الكتاب في التاريخانية العربية المعاصرة، بوصفها بحثاً في الحرية وكبوابة للولوج نحو التاريخ، تجاوزاً للنظرة التقليدية القائمة على تبجيل الأنا الحضارية للأمة. وهذا تحديداً ما قام به رواد متنورون، سعوا إلى زعزعة ثوابت الأب الثقافي بشتى تجلياتها، وفي مقدمتهم رئيف خوري، وقسطنطين زريق، وياسين الحافظ، وعبدالله العروي، وإلياس مرقص.
وبذلك يكون المؤلف قد طاف من خلال بحوثه في هذا الكتاب، على مواضيع وقضايا مختلفة، تلتقي عند نواة مشتركة، هي مناهضة التراث والتصدي لسلطان الهوية بجميع متعلقاته، باعتبار أن منهجية هدم الهدم، كما يقترحها الكتاب ويمتدحها بإفراط، هي المدخل الضروري والوحيد لولوج العالم المعاصر، بما فيه من مكتسبات ومزايا واستحقاقات. لكن يبقى الأمر على هذا النحو مجرد فرضية غير مبرهنة علمياً، إن لم نقل معتقداً وهمياً تحول إلى مسبقة أيديولوجية تفرض نتائج لا تتسق مع مقدماتها. فمن من الأمم التي خاضت، وبنجاح، تجربة التقدم، حققت ذلك بالتبرؤ كلياً من تراثها، أي بطرح ذاتها جانباً؟ أليس سؤال الذات هو المحور المركزي لمعظم الانشغالات الفكرية والفلسفية في الولايات المتحدة وأوروبا هذه الأيام؟!
محمد ولد المنى
---------
الكتاب: هدم الهدم
المؤلف: د. عبد الرزاق عيد
الناشر: دار الطليعة
تاريخ النشر: 2008