تركيا دولة إسلامية وجارة للعالم العربي. إيران كذلك. وليس هناك أدنى شك في أنه يجب أن يرتبط العالم العربي مع كلتيهما بعلاقات حسن جوار متينة. ما بين العالم العربي وكل من إيران وتركيا إرث تاريخي مشترك يمتد بعيداً في التاريخ. صحيح أن في هذا التاريخ الكثير من المحطات المظلمة. لكن فيه أيضاً الكثير من المراحل المضيئة. هناك تنافس إقليمي، لكن هناك أيضاً مصالح مشتركة بين هاتين الدولتين والعالم العربي. كل من إيران وتركيا تملك من الثقل السياسي والتاريخ، والمصالح ما يمكّنها أن تمثل بسياساتها ومواقفها رصيداً للدول العربية، وعمقاً استراتيجياً لها أيضاً، والعكس صحيح. أين تكمن المشكلة إذن، خاصة بالنسبة لإيران التي أصبحت في السنوات الأخيرة مصدراً لقلق وشكوك الكثير من العرب؟ هل من مبرر لذلك؟ هل تجاوزت إيران خطوطاً عربية حمراء أطلقت أجراس القلق والشك في أكثر من عاصمة عربية؟ ولماذا إيران تحديداً وليس تركيا؟ اللافت، والمثير لأكثر من سؤال أن القلق العربي مصدره إيران التي لا تعترف بإسرائيل، العدو الأول للعرب، وليس تركيا، العضو في حلف الأطلسي، والتي ترتبط مع الدولة العبرية بعلاقات متينة. يقال دائماً إن عدو العرب هو إسرائيل، وليس إيران. وبالتالي يجب التعامل مع إيران على هذا الأساس. برز هذا الرأي في ظل المخاوف العربية من البرنامج النووي الإيراني، ومن تمدد نفوذ طهران إلى داخل العالم العربي. من هنا يرى البعض أنه لا يجب الإنجرار إلى حالة من خلط الأوراق، وقلب الأولويات من خلال افتعال خلافات وصدامات عربية مع إيران في الوقت الذي تتخذ فيه طهران موقفاً مسانداً للعرب في صراعهم مع العدو الإسرائيلي. السلاح النووي الإسرائيلي هو مصدر الخطر الأول والحقيقي على العالم العربي، وليس السلاح النووي الإيراني، على افتراض أن برنامج إيران النووي موجه بالفعل لامتلاك هذا السلاح. وهذا رأي جدير بالتوقف أمامه قليلا. فالحقيقة أن إيران بالفعل ليست عدواً للعرب، ولا يجوز التعامل معها على هذا الأساس. يجب ضبط الأولويات والمفاهيم بالتأكيد على مسألة مهمة هنا، وهي أن إيران على المستوى الإقليمي دولة منافسة للدول العربية. في المقابل إسرائيل على المستوى نفسه هي العدو الأول للعرب، وربما الأخير. لكن يجب أيضاً عدم خلط الأولويات والمفاهيم على الجانب الآخر. فإيران دولة كبيرة، ومثل غيرها من الدول لها طموحات، ومصالح سياسية، إقليمية ودولية. وبما هي كذلك من حقها أن تسعى إلى خدمة وحماية مصالحها، وتعزيز دورها الإقليمي بما يتفق مع تلك المصالح، وبما يخدم طموحاتها. الشيء نفسه ينطبق على الدول العربية. ولأن إيران ليست عدواً للعرب لا مبرر للقول بأن طموحها في أن تكون دولة نووية لن يؤثر على ميزان القوى في المنطقة، وبالتالي لن يؤثر على مصالح الدول العربية. هذا منظور أخلاقي تبسيطي للإشكالية، ويصطدم رأساً مع طبيعة الدولة بما هي كذلك، ومع الواقع السياسي للعلاقات بين الدول، كعلاقات تتأسس في أصلها وفصلها على الصراع: صراع المصالح والأدوار. وما ينطبق على إيران من هذه الناحية ينطبق أيضاً على الدول العربية، وغيرها من الدول. ولا أظن أن أحداً يريد أن يجعل من إيران أو غيرها حالة أخلاقية استثنائية. وإلا فعليه أن يواجه مجموعة من الأسئلة: لماذا سكتت إيران عن الغزو الأميركي للعراق، والإطاحة بنظامه السابق؟ هل لأن النظام السابق كان عدوها اللدود؟ هل تعاونت طهران مع واشنطن، بشكل غير مباشر، لغزو العراق؟ كيف يمكن في هذا الإطار فهم الدور المركزي لـ"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" في عملية الغزو، والإطاحة بالنظام السابق، وهذا المجلس تأسس وتمول من إيران، وكانت طهران مقره الأهم والأكبر؟ من الطبيعي أن تستخدم إيران منظوراً أخلاقياً لدورها ولمصالحها، وهي في ذلك لا تختلف أيضاً عن الدول الأخرى، وذلك لتبرير هذا الدور، وللتغطية على حقيقة أهدافه وطموحاته. لكن الغريب أن يتم تبني هذا المنظور الأخلاقي من قبل البعض بشكل ينم عن بساطة في الرؤية، أو ربما أسوأ من ذلك. فحقيقة أن إيران معادية لإسرائيل لا يعني بالضرورة بأن على العرب التعامل معها على أنها دولة استثنائية. ليس هناك دولة يمكنها أن تكون كذلك، ولم يكن من قبل. حتى الدول الدينية، وإيران أقرب لهذا النموذج، هي في الأخير دول مصالح وطموحات سياسية. لا يعني هذا الكلام أن الدول لا تتميز عن بعضها. هي تتميز، لكن هذا أمر يختلف عن المنظور الأخلاقي، الذي يستخدم كثيرا، ومن قبل كل الدول كغطاء أيديولوجي. ولعلنا نتذكر في هذا السياق ما عرف بـ"الهجمة الديمقراطية" لإدارة بوش السابقة، وكيف انتهت. الديمقراطية هنا كانت غطاءً أيديولوجياً مكشوفاً لسياسة الإدارة في المنطقة. بالعودة إلى الإشكالية الأساسية لعله من الواضح أن القلق العربي من الدور الإيراني أصبح من الحقائق السياسية في المنطقة. السؤال في هذه الحالة: لماذا ليس هناك قلق عربي من الدور التركي أيضاً؟ هل لأن إيران دولة شيعية، وتركيا دولة سنية؟ هل هناك ما يبرر قلق العرب من الدور الإيراني، وليس من الدور التركي في المنطقة؟ المقارنة بين طبيعة وحجم كل من الدور التركي والدور الإيراني تبرز الفروقات بين الاثنين. ليس مهماً أن إيران دولة شيعية، لكن المهم أن النظام السياسي الإيراني نظام ديني على أساس مذهبي ينص عليه دستور الدولة. في المقابل تركيا ليست في الحقيقة دولة سنية. هي دولة علمانية أغلبية شعبها مسلمة على المذهب السني. الأكثر من ذلك أن الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا الآن يتبنى المفهوم العلماني للدولة، وبالتالي يمثل حالة فريدة في التأسيس للمصالحة بين العلمانية والإسلام. النظام السياسي الإيراني، في المقابل، يتناقض مع ذلك تماماً، من حيث أنه يقوم على نظرية "ولاية الفقيه"، وهي ولاية دينية شاملة على أساس من المذهب الشيعي. وهنا تضع إيران نفسها في موقع من يرسخ ليس فقط فكرة الدولة الدينية، بل والانتماء المذهبي. فالدولة الإيرانية بمثل هذه التركيبة والمنطلقات الدينية التي ترتكز عليها تمثل واحداً من أقوى تجسيدات الحالة الطائفية للمنطقة. عندما نأتي إلى دور كل منهما، نجد أن الدور التركي، وتعبيراً عن طبيعة الدولة التي يمثلها لا يتجاوز كونه كذلك، دورا إقليميا من خلال التعامل مع الدول مباشرة: التفاوض، والوساطة، والتشاور. أحد أهداف الدور التركي أيضاً خدمة مصالح تركيا الاقتصادية من خلال الاستثمار، وتنفيذ المشاريع، والاتفاقات الاقتصادية. يختلف الدور الإيراني عن ذلك بشكل لافت. فهذا الدور امتداد لطبيعة الدولة الإيرانية. ومن هنا فالدور الإقليمي الإيراني لا يقوم على أساس من العلاقة مع الدول العربية، ومن خلال التعامل معها مباشرة. بدلا من ذلك يقوم هذا الدور على أساس من تواجد تنظيمي في بعض الدول التي تسمح ظروفها السياسية بذلك: مثل العراق حيث الشيعة فيه يشكلون أغلبية، والتنظيمات السياسية الشيعية هي من أبرز القوى السياسية في الدولة. ولبنان حيث الطائفة الشيعية تمثل مكوناً أساسياً وقوياً في النظام السياسي هناك. التواجد الإيراني داخل العالم العربي مثير للانتباه، ومثير لقلق الدول. فهذا تواجد تجاوز في حدوده الجانب السياسي. هناك تواجد مادي: عسكري، واستخباراتي، ومالي، وكل ذلك من خلال أحزاب أيديولوجية سياسية مرتبطة مباشرة مع إيران، وتعتبر القيادة الدينية الإيرانية مرجعيتها الأيديولوجية والسياسية. بعبارة أخرى، تحاول إيران من خلال هذا التواجد، ليس فقط لعب دور إقليمي مستحق، وإنما إيجاد قوى سياسية حليفة لها داخل المنطقة لممارسة الضغط على الدول العربية بهدف فرض خياراتها السياسية. ومن الطبيعي أن تتوجس الدول العربية من هذا الدور. لكن رغم مبررات القلق العربي من الدور الإيراني، فإن الدول العربية هي المسؤلة الأولى عن إيجاد الفراغ السياسي في المنطقة أمام تمدد هذا الدور بالطبيعة التي يمثلها. فشل الدول العربية في الصراع مع إسرائيل، وفشلها في تبني إصلاح سياسي واقتصادي، هو أهم العوامل التي أوجدت ذلك الفراغ الذي يتسلل من خلاله الدور الإيراني. الدول العربية قلقة من ذلك، وتشتكي من عواقبه المحتملة، لكنها لا تريد أن تعترف بمسؤوليتها عنه، وبالتالي لا تفعل شيئاً إزاءه.