ربما لا يحتاج الأمر إلى كثير من الجهد كي يكتشف المرء أن هناك حالات سوء استغلال لمظلّة التأمين الصحي سواء من جانب "المستفيدين" من المرضى أنفسهم، أو من شريحة لا بأس بها من أطباء القطاع الخاص وبعض مستشفياته وعياداته ومراكزه الصحية، أو من الصيدليات. مظاهر سوء الاستغلال المقصود متفاوتة ومتعدّدة، بعضها يمارسه كثير من المرضى حينما يتردّدون على الأطباء بسبب ومن دون سبب أو لحجج وأعذار واهية مدفوعين بتمتّعهم ببطاقات تأمين صحّي مغطاة بالكامل أو بنسب لا تكاد تذكر من تكلفة الكشف والعلاج الطبي؛ المظهر الآخر يمارسه العديد من أطباء القطاع الخاص ومستشفياته التي تحيل معظم مرضاها إلى تحليلات وفحوصات معمليّة قد لا تستدعيها الحالة المرضية، أو لإجراء هذه الفحوص المختبرية بدواعٍ واهية، وأحياناً استجابة لطلب من المريض نفسه بحجّة الاطمئنان على حالته الصحيّة! أما الصيدليات فبعضها يشارك في سوء الاستغلال هذا عبر "تبديل" الوصفات الطبية أو جزء منها بمنتجات تجميل أو أدوية وعلاجات أخرى لا تخضع للتأمين الصحّي. أحد الأسباب القوية التي تقف وراء هذه الممارسات المعيبة أن هناك تنافساً كبيراً بين المستشفيات والمراكز والعيادات الطبية على الفوز بأكبر نصيب من "كعكة" التأمين الصحّي، وأن هناك ضعفاً في الرقابة وصعوبة اكتشاف حالات التلاعب بسبب ضخامة أعداد المتردّدين على المستشفيات والصيدليات، ما يجعل من الصعب على شركات التأمين ذاتها اكتشاف أي تلاعب أو مبالغات في صرف الوصفات الطبية، أو اكتشاف حالات تردّد عشوائية على الأطباء في أوقات متقاربة وللسبب ذاته، وسوء استخدام بعض المرضى للمزايا الصحيّة التي يوفرها لهم نظام التأمين الصحي الحضاري الذي تطبّقه الدولة. لا شكّ في أن مظلّة التأمين الصحّي التي باتت ممتدّة لتشمل حتّى زوّار البلاد، مظهر حضاري رائع، ولكن ينبغي إعادة النظر في ثغرات النظام وتلافيها من أجل الحفاظ على استمراريته وصون الخدمات الصحية من المتلاعبين من بين أطراف المنظومة بكاملها، كي لا يتحوّل هذا النظام الحضاري القائم على فكرة التكافل الاجتماعي إلى مصدر لنهب الأموال من بعض ضعاف النفوس في مختلف الشرائح المستفيدة من النظام سواء كانوا "متمارضين" يتحايلون على النظام بصفة شبه يومية للحصول على أدوية لمجرّد أنهم مشتركون في النظام، ومستشفيات لا تتنافس -ليس كما يعتقد بعضهم- على تقديم الخدمات الطبية بل على جذب أكبر عدد من "الزبائن" وتعظيم رصيدها ومستحقاتها لدى شركات التأمين المنضوية تحت مظلّة نظام التأمين الصحي، وصيدليات "متخصّصة" في استبدال مستحضرات التجميل بالأدوية في صفقات يومية شبه علنية تتم تحت نظر القانون بين الصيدلي والمنتفعين وأحياناً الطبيب! هناك ملاحظات كثيرة تؤكّد ضرورة الإسراع إلى سدّ هذه الثغرات كي لا يتحوّل المشروع إلى باب من أبواب "الاسترزاق" لفئات معيّنة من الأطباء والمستشفيات والصيدليات وشرائح من "المتمارضين" بما قد يؤدي إلى نزيف مالي وعجوزات قد تثقل كاهل شركات التأمين وقد تتسبّب في تعثّر بعضها أو تضطرها إلى تأجيل دفع مستحقات المستشفيات والصيدليات بما قد يؤدي بالنهاية إلى إرباك النظام أو الحدّ من مزاياه الصحيّة والإضرار بالمرضى والمستفيدين الحقيقيين من هذه المظلّة التأمينية، خصوصاً في ظلّ احتمالات وجود فوارق هائلة قد تتراكم على مدى السنوات بين موارد الاشتراكات وحجم الإنفاق. تصريحات العديد من الأطباء المنشورة في الصحف، خلال الآونة الأخيرة، تؤكّد أن الممارسات السلبية قائمة والتلاعب وارد ومنتشر بين شريحة ليست قليلة من أطراف منظومة التأمين الصحّي، ومعالجة هذه الظاهرة السلبية لا تقع على كاهل شركات التأمين فقط باعتبارها المتضرّر الرئيسي من هذه الممارسات، بل على المنتفعين والهيئات الصحية المشرفة على التطبيق أيضاً، مع ضرورة فرض عقوبات مشدّدة على الأطباء أو الصيدليات التي تتلاعب بالنظام، وأيضاً إلغاء البطاقة الصحيّة في حال اكتشاف أي حالات للتلاعب وسوء استغلال الخدمة من جانب المنتفعين.