العدوان على غزة والنظام العربي
لاشك أن العدوان الإسرائيلي على غزة قد ترتبت عليه تداعيات خطيرة بالنسبة لعدد من القضايا العربية المصيرية، ومن ذلك أنه كان مناسبة كاشفة لما ألم بالنظام العربي الرسمي من عجز فادح عن ردع العدوان على وحدة من وحداته، بالإضافة إلى أنه ربما كان عاملاً رئيسياً في تفاقم هذا العجز، بسبب ما مثله العدوان من تحدٍ صارخ للإرادات العربية لم يجد استجابة سليمة من النظام وآليات العمل فيه.
وليس عجز النظام العربي عن ردع العدوان على وحدة أو أكثر من وحداته بجديد، وربما تكون حرب أكتوبر1973 هي آخر عهد النظام بالقدرة على الحركة الفاعلة فيما يتعلق بتحقيق أمنه القومي، ففي أعقاب تلك الحرب تعرض النظام لأكثر من تحدٍ خطير، ويبرز في هذا الصدد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في1982، والعراقي للكويت في1990، والعدوان الإسرائيلي على لبنان في2006، والتدخل الإثيوبي في الصومال في السنة نفسها، وفي كل هذه التحديات لم يستطع النظام أن يبلور الاستجابة المطلوبة من أجل حماية أمنه القومي أو على الأقل أمن إحدى وحداته.
غير أن المقاومة تلك سببت حرجاً بالغاً للنظام الرسمي العربي الذي تربطه شبكات مصالح قوية بقوى إقليمية ودولية عديدة تعد -أي هذه الشبكات- في حد ذاتها سبباً يفسر عجزه عن ردع العدوان عليه أو التصدي له، ومن ثم بدا سلوك قوى المقاومة مهدداً لتلك المصالح، ولذلك حدثت عملية تحول تاريخي بطيئة في سلوك النظام العربي نقلته من موقع الحاضن لقوى المقاومة (كما في موقفه من إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في1964 في إطار القمم العربية) إلى موقع الساكت عنها أو حتى المناوئ لها، فقد أصبح بعض هذه القوى يمثل تهديداً للوضع الراهن الذي يريد الاتجاه الغالب في النظام العربي الرسمي الحفاظ عليه، وهكذا اختفت كلمة المقاومة ومصطلحات تأييدها من قرارات القمم العربية في السنوات الأخيرة على سبيل المثال، وحلت محلها مصطلحات الإعزاز والإكبار لصمود الشعوب، ثم جاءت النقلة الأوضح بتبني موقف يحمل المقاومة مسؤولية تفجير عدد من الأزمات بسلوكها الذي اعتبرته قوى مؤثرة في النظام العربي الرسمي غير رشيد، وهكذا اعتبر "حزب الله" من قوى فاعلة في النظام مسؤولاً عن عدوان إسرائيل على لبنان في2006 لمبادرته بعملية ضد قوى الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بالطريقة نفسها التي اعتبرت بها "حماس" مسؤولة عن عدوان إسرائيل الغاشم على غزة في 2009/2008 لرفضها تجديد التهدئة مع إسرائيل، وإن كانت الموضوعية تقتضي الإشارة إلى أن النظام قد اضطر إلى إدخال تعديلات على سلوكه إزاء وحشية العدوان وتعاظم خسائره البشرية والمادية، وما ترتب على هذا من تعاطف شعبي مع المقاومة وضحايا العدوان.
في هذا السياق احتلت "القمم العربية" دائماً مكاناً خاصاً، فقد نظر إليها تاريخياً على أنها الآلية والملاذ من الكوارث الحالَّة أو القادمة، والقادرة بحكم مشاركة قادة العرب فيها على تقديم البدائل الصحيحة للحركة، ومع أن أقل القليل من هذه القمم كانت له آثاره الإيجابية الواضحة على ما تصدت له من تحديات إلا أن الإيمان بها كملجأ وملاذ ظل قائماً، ولأن ثمة خلافات في وجهات النظر داخل النظام -بغض النظر عن ميزان القوى بين المختلفين- فكثيراً ما شهدت القمم العربية انقسامات في الرأي أمكن تفاديها أحياناً بصياغات دبلوماسية عامة، ولم يمكن تفاديها أحياناً أخرى عندما ترتبت عليها أنماط متضاربة للسلوك من قبل الدول العربية. وفي بعض الأحيان كان الهروب من عقد القمة أصلاً هو المخرج من هذه الانقسامات.
وقد نذكر الانقسام العربي المروع الذي حدث بشأن القرار الذي أصدرته قمة القاهرة1990 بعد الغزو العراقي للكويت، وعدم طرح فكرة عقد قمة استثنائية أصلاً بعد احتلال العراق في2003، والإخفاق في الوصول إلى نصاب يضمن عقد مثل هذه القمة إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في2006. في هذه الأمثلة الثلاثة عبرت الانقسامات العربية- العربية عن نفسها بطرق مختلفة، في المثال الأول (1990) حدث الانقسام في إطار القمة الواحدة، وفي المثال الثاني (2003) تم تفادي الدعوة إلى قمة استثنائية أصلاً، وفي المثال الثالث (2006) طرحت الفكرة لكنها لم تحصل على النصاب الكافي ففضل من طرحها (اليمن) سحب فكرته تفادياً لمزيد من الانقسام العربي. أما في حالتنا هذه فقد حدث إصرار على تفادي القمة من البعض وإصرار على الدعوة لها من البعض الآخر، وعبر المعسكر الأول عن موقفه بتفضيل الذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بوقف إطلاق النار، فلما صدر القرار ولم تلتزم به إسرائيل طرح فكرة العودة إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار تنفيذي لقرار وقف إطلاق النار(!) فيما كانت مصر تسابق الزمن للوصول إلى وقف لإطلاق النار كي تثبت صحة وجهة نظر المعسكر الأول. أما المعسكر الثاني فقد دعا إلى قمة استثنائية وسكت عنها حيناً، وفهم أن هذا لإتاحة الفرصة لإنجاح جهود وقف إطلاق النار، ثم عاد فألحّ عليها في وقت كانت قمة الكويت الاقتصادية قد اقتربت للغاية مما أتاح لخصوم الفكرة القول إن من شأنها أن تؤثر على قمة الكويت، وهكذا وقف الخلق يتابعون جميعاً مشهد اجتماعين عربيين يعلم الجميع -بغض النظر عن جدارة ما طرح في أيهما من أفكار- أنها المرة الأولى التي تترجم فيها الخلافات العربية- العربية "تنظيمياً" إذا جاز التعبير، بمعنى أن يكون لكل فريق من الفرق العربية إطاره الخاص الذي يمارس فيه سياساته على نحو يضفي مزيداً من الإرباك لفكرة بقاء النظام العربي كإطار جامع للتفاعلات العربية- العربية. وبعد أن كنا نشكو من المشروعات الإقليمية والدولية الأوسع كالمبادرات الشرق أوسطية أو المشروع الإيراني، والمشروعات الفرعية الأضيق كتلك التجمعات الجزئية التي شاعت حيناً داخل النظام العربي أصبحنا نواجه انقساماً بين معسكرين على أسس سياسية واضحة ربما يتبلور لكل منهما إطاره التنظيمي الخاص به. وهي مرحلة بالغة الخطر في تطور النظام تنتقل به من الانقسام إلى التفتيت، وتضيف إلى هموم غزة هموماً عربية أوسع بكثير، يأمل المرء أن تكون المؤشرات المتاحة عن نتائج قمة الكويت الاقتصاديةبادرة إيجابية على طريق النجاح في مواجهتها.