إدارة بوش... عهد الفرص الضائعة
الشراسة التي ميزت السباق الرئاسي الأخير باعتباره الأطول في التاريخ الأميركي ثم تتويج المرشح "الديمقراطي" باراك أوباما رئيساً مع كل ما ينطوي عليه ذلك من تغير الخطاب السياسي وتنامي الوعود والأمل في مستقبل أفضل، لا يوازيها في الحقيقة سوى حجم المشاكل المعقدة التي تنتظر الرئيس المنتخب وكأن صعوبة الوصول إلى البيت الأبيض والتنافس المحموم مع باقي المرشحين ستلاحقه حتى بعد توليه الإدارة لأن تعقيدات الرئاسة في ظل الأزمات الداخلية والتحديات الخارجية أصعب من أي سباق انتخابي. وهذه التحديات الجسيمة التي تتربص بالرئيس الأميركي المنتخب يستعرضها مراسل "نيويورك تايمز" في واشنطن "ديفيد سانجر" ضمن كتابه الذي نعرضه اليوم: "التركة: العالم الذي يواجهه أوباما وتحديات القوة الأميركية" وفيه يفحص الأعباء الثقيلة التي تركتها إدارة الرئيس بوش منبهاً إلى أهم البؤر الساخنة التي يتعين على أوباما التصدي لها خلال ولايته الرئاسية. وخلافاً للكتب الكثيرة التي تناولت أخطاء الإدارة السابقة وتداعياتها السلبية على السياسة الخارجية الأميركية ومكانتها العالمية يبتعد الكاتب عن العراق مركزاً بدلاً من ذلك على أفغانستان وإيران وكوريا الشمالية باعتبار أن تلك المناطق من أكثر مصادر التوتر التهاباً في العالم بما ترتبه من تحديات تمس مباشرة المصالح الأميركية وأمنها القومي.
فعلى مدى السبع سنوات التي قضاها الكاتب في تغطيته لأنشطة الرئيس بوش وتتبعه لسياساته المختلفة يسجل ذهوله الواضح من "مقاومة بوش غير المبررة حتى آخر مرحلة في رئاسته لتغيير مساره" حتى بعدما تبين خطأ ذلك المسار وعندما بدأت تظهر نتائجه الكارثية على السياسة الخارجية بسبب اعتقاد راسخ يرصده الكاتب لدى بوش يرى من خلاله أن أي تغيير استراتيجي، أو اختيار للمفاوضات طريقاً للتعامل مع القوى العالمية إنما هو دليل على ضعف سياسي. ومع أن الكاتب نفسه لا يمكن أبداً إدراجه في صف "الحمائم" الذين ينتقدون الوسائل العسكرية واعتماد إدارته على القوة لحل المشكلات العالمية بالنظر إلى تشجيعه لتعبئة الآلة العسكرية الأميركية إلى جانب المساعي الدبلوماسية لكسب الحرب في أفغانستان، إلا أنه ينتقد أخطاء بوش وبالتحديد تلك السياسات التي خلطت الأولويات وركزت على العراق بدل الالتفات إلى تنظيم "القاعدة".
وفي الوقت الذي كانت فيه إدارة بوش منهمكة في العراق تخوض حرباً دموية مع المتمردين وتحاول عبثاً تشجيع القوى السياسية الطائفية على المصالحة تركت الصين لوحدها لتوسع نفوذها في محيطها القريب وتراكم أسباب القوة الاقتصادية والعسكرية، وأكثر من ذلك، يقول الكاتب، إن متطلبات الحرب في العراق أعاقت استكمال نظام الدفاع المتقدم في الولايات المتحدة نفسها.
وفيما ركز أركان الإدارة الأميركية على أسلحة دمار شامل غير موجودة أصلاً في العراق تركوا المجال مفتوحاً أمام كوريا الشمالية لمواصلة برنامجها وبناء مفاعلها النووي دون حسيب، أو رقيب، كما ظلت ترسانتها النووية عرضة للانتشار لمن يدفع أكثر. وبالنسبة للكاتب لا يكمن خطأ حرب العراق فقط في أنها مجانية وغير ضرورية وكلفت أميركا أموالاً طائلة، بل أيضاً لأنها صرفت انتباهها عن البؤر الأكثر استعجالاً لتصل تداعيتها إلى إقليم دارفور في السودان، حيث ينقل الكاتب عن مسؤول أميركي بارز ما قالته وزيرة الخارحية، كوندوليزا رايس، للرئيس بوش وهما يناقشان موضوع دارفور: "لا أعتقد أنك تستطيع غزو بلد مسلم خلال هذه الإدارة حتى لو كان ذلك لأنبل الأسباب". والحال أن الحرب في العراق أعاقت أيضاً، حسب الكاتب، قدرة أميركا على التصدي لتهديد وإيران. والأمر يمتد أيضاً إلى أفغانستان التي يرى الكاتب أنها تعرضت لإهمال من قبل الإدارة الأميركية خلال السنوات الأولى من الحرب على العراق، على رغم تتابع القرائن على تنامي خطر "طالبان" في المناطق الحدودية مع باكستان. وفي هذا السياق يعود بنا الكاتب إلى شتاء 2008 عندما طالب الجنرال "دان ماكنيل" قائد قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان بحوالي 37 ألفاً من القوات الإضافية فكان الرد أن تعرض للتوبيخ وُرفض طلبه من قبل البيت الأبيض، حيث نُقلت الوحدات الخاصة في الجيش الأميركي والجنود ذوو الخبرة العالية، فضلًا عن عناصر وكالة الاستخبارات الأميركية إلى العراق ليخف الضغط بذلك على "طالبان".
ويواصل الكاتب استعراضه للائحة طويلة من الفرص الضائعة التي أهدرتها إدارة بوش وأهمها على الإطلاق، مساعي احتواء إيران بعد هجمات 11 سبتمبر. لكن الحرب في العراق التي أحبطت كل تلك الفرص كانت مبررة في نظر الكثير من رموز الإدارة، مشيراً في هذا السياق إلى حديث أجراه مع مسؤول بارز قال فيه: "إننا ببساطة نعيش في عالم محدود الموارد، وهي موارد موجودة في العراق، وأي شخص يقول غير ذلك فهو يردد مجرد هراء". واليوم وعلى بعد أيام فقط على تنصيب الرئيس الجديد تحولت أخطاء إدارة بوش إلى عبء ثقيل يتعين على أوباما التعامل معه بحذر بالغ وانتهاج مقاربة جديدة تعيد رسم أولويات السياسة الخارجية الأميركية وتأسيسها على تصورات براجماتية تسعى إلى تحقيق المصالح الأميركية في عالم شديد الاضطراب.
زهير الكساب
الكتاب: التركة: العالم الذي يواجهه أوباما وتحديات القوة الأميركية
المؤلف: ديفيد سانجر
الناشر: هارموني بوكس
تاريخ النشر: 2009