"ثورة العشرين"... قراءة أخرى
يُضطرّ واحدنا، حيال كتابة التاريخ المغلوطة، أن يراجعه بشيء من الصرامة والقسوة، خصوصاً حين يُستخدَم الخطأ المعرفيّ، عن قصد أو دون قصد، لتثبيت الخطأ في الواقع الراهن. يندرج في ذلك ما عُرف بـ"ثورة العشرين" العراقيّة التي أريد تقديمها كحدث وطنيّ مناهض للاستعمار أدرك أصحابه مبكراً معنى الوحدة العراقيّة والوعي العروبيّ ورفض التجزئة التي فرضها الانتداب البريطانيّ إلى ما هنالك من لغو وسفسطة. وليس مصادفاً في هذا المعنى أن التفاخُر بـ"ثورة العشرين" أنتج إحدى المنظّمات العنفيّة التي دعت نفسها "كتائب ثورة العشرين" والناشطة في عراق اليوم.
والحال أن مراجعة هذه الروايات الزائفة التي أريد تكريسها روايات تأسيسيّة تبقى ضرورة ملحّة لإدراك يومنا والعيش في عالمنا المعاصر.
فقد لقي الغزو البريطانيّ للعراق، خلال الحرب العالميّة الأولى، مقاومات وتمرّدات صغرى بلغت ذروتها، بعد انتهاء الحرب المذكورة، فيما سمّاه العراقيون "ثورة العشرين". وكانت "عصبة الأمم" قد كلّفت بريطانيا، في إبريل من العام نفسه، بالانتداب على ذاك البلد.
لكن لا تزال الدراسات والأبحاث حتّى اليوم حائرة في تحديد أسباب فعليّة لـ"الثورة" التي يبدو أنها كناية عن تراكم أحداث ووقائع مجهريّة ومحليّة صغرى. فقد روى أمين الريحاني، مثلاً، في كتابه "فيصل الأول"، أن السلطة الإنجليزيّة في كربلاء والحلّة اعتقلت "عدداً يُذكر من الوطنيين، وفيهم ابن أحد المجتهدين. ثم اعتقلت الشيخ شعلان أبو الجون شيخ عشيرة الظوالم لِدَين عليه أبى أن يدفعه كما قيل، فهاج عرب الظوالم نافرين له، وجاؤوا السراي صاخبين، فهجموا على السجن ودخلوه قهراً، ثم خرجوا بشيخهم يحدون ويهلّلون للثورة. وعلى أثر ذلك أفتى مجتهد كربلاء بالجهاد، فاندلعت من كل جانب ألسنة النار ونفرت العشائر للقتال". وكان من أفعالهم الأولى، كما أضاف الكاتب، تخريب سكة الحديد "في أماكن متعددة". وتشير مصادر أخرى إلى تحريض مارسه رجال الدين لرجال العشائر خوفاً على المصالح العائدة لمؤسّستهم الدينيّة، لاسيّما في ظلّ الوجود البريطانيّ في إيران أيضاً، مما يعني السيطرة على حركة تدفّق التبرّعات الماليّة والزوّار للمدن الشيعيّة المقدّسة في العراق، وكذلك على حركة نقل جثث الموتى إليها. كما خافت طبقة "السادة" أو "السيّاد" على عائداتها التي تؤمّنها لها العشائر. وعُرف عن رجال الدين رفضهم وقوع العراق المسلم في قبضة المسيحيّين "الكفّار"، كذلك أراد مراجع دينيّون إنشاء دولة إسلاميّة، وهو ما عبّر عنه الاستفتاء الذي كان أجراه البريطانيون في 1919، في مقابل ميل الفئات التجاريّة المدينيّة، على ما يشير إسحاق النقّاش في كتابه "شيعة العراق"، إلى استمرار حكم بريطانيّ مباشر.
والمؤكد أن الانتفاضة التي قادها شيعة الوسط والجنوب انطلقت استجابة لفتاوى دينيّة، وفي وصف إجماليّ للقوى الاجتماعيّة التي أطلقتها يكتب حنا بطاطو: "انبثقت الروح المحرّكة للتحريض ضدّ سيطرة الإنجليز والذي وجد تتويجه في الانتفاضة المسلّحة لعام 1920 من الجلبيّين [طبقة اجتماعيّة تضمّ بعض أوائل التجّار المسلمين الكبار] المحكومين بالحفاظ على الأنماط القديمة للمواصلات، أو من الموظّفين "الأريستوقراطيّين" المرتبطين بالإدارة العثمانيّة السابقة، أو من المجتهدين و"العلماء"، وهم الأنصار الرئيسون للتصوّرات الاجتماعيّة الوراثيّة، أو من شيوخ العشائر ملاّكي الأراضي أو السادة العشائريّين، الذين كرهوا الصرامة غير المألوفة للطرق الإنجليزيّة في جمع العائدات، أو أن الطريقة الإنجليزيّة في إدارة مياه الفرات أثّرت عليهم على نحو سيئ".
لا، بل إذا ما راجعنا الأوصاف التي أوردها بطاطو، وهو أفضل من كتب عن العراق الحديث، لانتفاضة العشرين، لوجدنا أن قادتها من "السادة" كانوا "ملاّكي أراض كباراً"، فيما همّهم الفعليّ الإبقاء على "حريّة التحكّم بأراضيهم وفلاّحيهم بالطريقة التي تعوّدوا عليها"، أي، وإلى حدّ بعيد، كما عنّ لهم.
ويصف بطاطو محافظة المنتفق، أحد المهود الساخنة لـ"ثورة العشرين"، بما يلي: "يكاد يكون التمرّد طبيعة ثانية لأهل المنتفق. فما من سكّان في أيّة محافظة أخرى من العراق حريصون على حريّتهم حرص أهل المنتفق، وما من سكّان في أيّة محافظة يحتقرون القانون ويعارضون أيّ شكل من الحكم كما يفعلون".
غنيّ عن القول إن حركة كهذه رجعيّة وضدّيّة تناهض الدولة والتنظيم الاجتماعيّ الحديث فضلاً عن العداء لتحكيم القوانين بالعلاقات السائدة. وهي، من ثمّ، تفتقر إلى أيّة قيمة إيجابيّة، سياسيّاً أو اجتماعيّاً. لكن هل يمكن لحركة تنطوي على أوصاف كتلك أن توحّد مَن صاروا، منذ 1920، عراقيّين؟
لابد من مطّ واستنفاد قدرتنا على المبالغة حين نصف أحداث 1920 العراقيّة بأنها "وطنيّة"، فيما كلمة "وطن" لا تملك لدى القائمين بها أيّ معنى، وما من تصرف يوحي بأنهم أخذوها بعين الاعتبار. مع هذا صار الحدث، أي "ثورة العشرين"، "جزءاً من أسطورة وطنيّة، ومن ثمّ عنصراً مهمّاً في انتشار الوعي الوطنيّ"، حيث للمرّة الأولى منذ قرون توافق السنّة والشيعة سياسيّاً، كما توافق سكّان مدينة بغداد وعشائر الفرات على التلاقي. وقد انعكس هذا على المناسبات والطقوس الدينيّة والاحتفالات المشتركة في المساجد التي أكّدت على الأخوّة بينما انبثقت من الجوامع الدعوات الموجّهة للعشائر إلى إعلان الجهاد، هذا فضلاً عن الشعر والخطابة الحماسية مما واكب "الثورة".
لكن التقارب السنّيّ- الشيعيّ انطلاقاً من الدين، لا من الوطنيّة، وطغيان محاربة الإنجليز على كلّ تصوّر للمستقبل وللبديل، لا يوجزان المشكلة. فقد كان هناك تقسيم عمل واضح يعكس التراتُب القائم أصلاً في المجتمع الجديد: فقد تولّى السكّان الشيعة القتال والتصدّي المتفرّق للجنود الإنجليز فيما احتفظت لنفسها بغداد، السنّيّة يومذاك، بكتابة المناشير والمراسلات وتسيير مظاهرات التأييد والدعم. وسوف يكتشف التاريخ العراقيّ اللاحق أن تقسيم العمل هذا سحب نفسه على المرحلة التالية للانتفاضة، مُقوّياً الرغبة البريطانيّة في تسليم السلطة للنخبة السنيّة وعاملاً على تهميش الأكثريّة العدديّة الشيعيّة سياسيّاً. وهذا بالطبع لا يلغي حقيقة أن التفاوت الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ بين سنّة المدن وشيعة الأرياف يبقى السبب الأهمّ وراء ذلك.
بالمعنى نفسه لم يغب عن اختيار فيصل بن الحسين الهاشميّ ملكاً للعراق بعد أن خسر مملكته في سوريا، كونُه من أنسال الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رغم سنيّته. فتوسّل الأصل الدينيّ المشترك، وأرستوقراطيّة النسب، أريد منه توسيع المساحات المشتركة بين السنّة والشيعة، وفي الوقت نفسه الحدّ من القوّة الشيعيّة التي استعرضت نفسها في "ثورة العشرين". وفعلاً ففي أغسطس 1921 سُلم فيصل عرش العراق، ثم في مارس 1924 أقيمت جمعيّة تأسيسيّة جديدة للبلد الجديد.
لكن سوء حظ هذا البلد الذي رافق نشأته تجاوز الحساسيّة السنّيّة- الشيعيّة، ليدلّ على المبالغة الوحدويّة، لا التجزيئيّة كما يقال، في السلوك البريطانيّ.
فحين كانت المناطق الشيعيّة تتمرّد في الوسط والجنوب، كان الأكراد في الشمال، وهم يومذاك 23 في المئة من سكّان العراق الناشئ، يتمردون لأسباب أخرى. فقد انتفضوا بقيادة الشيخ محمود البرزنجي، أو محمود الحفيد، ضدّ الإنجليز والعراق الجديد ما بين 1918 و1930. لكن البرزنجي وُضع في 1931 رهن الإقامة الجبرية في بغداد.