"الإسلام السياسي" السوري.. مسارات ومصائر!
شكّل الإسلام السياسي أحد مكونات الحياة السياسية في سوريا منذ استقلالها، وقد تعاظم دوره بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، ثم ها هو موضوعه يطرح مجدداً مع عودة مظاهر التدين الشعبي في المجتمع السوري، ووجود حركة إسلامية معارضة في الخارج. في كتاب "الإسلام السياسي في سوريا"، لرضوان زيادة، وهو كبير الباحثين في "معهد الولايات المتحدة للسلام" في واشنطن ومؤسس "مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان"، نطالع قراءة مفصلة لتطور العلاقة بين السلطة والحركات الإسلامية في سوريا، ودور هذه الحركات في صوغ المجال السياسي، وحدود تأثيرها، وكيفية تأثير شكل النظام السياسي السوري منذ عام 1963 في مستقبل الحركات الإسلامية. وقبل ذلك يبحث الكتاب في العلاقة المبكرة بين الدين والدولة في سوريا، قائلاً إنها تعود إلى فترة "التنظيمات" العثمانية، والتي أتاحت لعلماء الدين الدمشقيين فرصة تشكيل جمعيات خيرية ودعوية مارست السياسة بشكل أو بآخر، وذلك تعبيراً عن رغبة العلماء في استرداد نفوذهم، عقب الإصلاحات العثمانية. وقد تكاثر عدد الجمعيات الدينية وتزايد نشاطها السياسي، وكان أهمها جمعيات "الهداية الإسلامية" (1931) و"التمدن الإسلامي" و"العلماء" (1937)، والتي انضم إلى طبقة العلماء فيها ممثلو الطبقة البرجوازية الصغرى. لكن تصدع التحالف الذي أبرمته هذه الجمعيات مع الزعيم الوطني شكري القوتلي عقب انتخابه عام 1943، أدى إلى انصهارها في حركة "الإخوان المسلمين" السورية التي تشكلت عام 1945، كامتداد للحركة الأم في مصر.
لكن قيام إسرائيل كتهديد دائم على الحدود السورية، وسلسلة الانقلابات التي عاشتها سوريا منذ عام 1949، خلقا بيئة خصبة لنمو التيارات اليسارية والقومية. ورغم ذلك فإن وضع "الإخوان" أغراهم بدخول اللعبة السياسية بشكل أكبر، لكنهم تأثروا بتقلباتها الدائمة، خاصة بعد قرار حسني الزعيم حل الأحزاب السياسية، مما خلق محاور انقسام داخل الجماعة حول مدى التزامها بالعمل السياسي.
ومع سقوط أديب الشيشكلي وعودة الديمقراطية عام 1954، كان حضور "الإخوان" خافتاً وضعيفاً، حتى أن مرشدهم مصطفى السباعي لم يتمكن من الوصول إلى البرلمان في انتخابات 1957.
ورغم تأييد السباعي لجمال عبد الناصر، فقد عاد "الإخوان" إلى الحياة السياسية مع عودة التعددية الحزبية، وتمكنوا من الفوز بعشرة مقاعد برلمانية عام 1961. أما بعد وصول حزب "البعث" إلى السلطة عام 1963، فقد دخلوا مرحلة جديدة يتوقف المؤلف عند كثير من محطاتها وأحداثها المهمة.
كان الاعتصام الذي نظمه القادة المحليون لـ"الإخوان" في مدينة حماة عام 1964، مؤشراً مبكراً على تصاعد تيار "أصولي" داخل الجماعة، يحاول المؤلف قراءته على ضوء ما حدث من تحول في الضفة المقابلة، أي قيام الجمهورية الثالثة في سوريا، بما انطوى عليه من احتكار للسلطة، وفرض حالة الطوارئ، وإلغاء للتعددية... أي استبدال الشرعية الدستورية بالشرعية الثورية متمثلة في حزب "البعث".
ومع التطور الاجتماعي والتغير الديمغرافي العميق اللذين عرفتهما سوريا، كان من الطبيعي أن تنشأ نخبة سياسية جديدة تنتمي إلى أصول اجتماعية مختلفة، لعبت الخلفية العسكرية دوراً حاسماً في صعودها، وهي النخبة التي يمثلها حافظ الأسد. فقد استطاع بعد تسلمه قيادة البلاد عام 1971، مركزة السلطة بشكل هرمي حاد، وأدرك بحنكة أهمية استمالة التيار الديني، وهو المنحدر من أقلية علوية في بلد تقطنه أكثرية سنية، فسعى منذ البداية لاحتواء العناصر الأكثر تقلباً بين "الإخوان"، واستطاع تحييد قطاع كبير من التيار الديني، لاسيما علماء وتجار دمشق، كما عمل على الاستفادة من الانقسامات التي بدأت تدب في صفوف "الإخوان". لكن في ظل القبضة الحديدية لـ"البعث"، تنامى تنظيم "الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين"، فتزايدت عملياته منذ صيف عام 1979، فيما شددت أجهزة الأمن ملاحقة "الإخوان"، وصولاً إلى القرار الذي اتخذه "البعث" في يناير 1980 بضرورة "تكثيف الحملة أمنياً وسياسياً، لتصفية عصابة الإخوان المسلمين والقضاء على مرتكزاتها في الدولة والمجتمع". ووصلت صرامة الأجهزة الأمنية إلى أبعد مدى بقصف مدينة حماة في فبراير 1982.
ويعتقد المؤلف أن الطريقة الاستئصالية التي اتبعها النظام، كان من تداعياتها أيضاً حدوث شرخ عميق بين "الإخوان" أنفسهم. فقد صل الشقاق داخل قيادتهم مرحلة الذروة عام 1986، في صراع على زعامة التنظيم، وتبادل الاتهامات بالمسؤولية عما جرى في حماة. وارتبط ذلك الصراع بعوامل إقليمية أهمها الخلاف السوري العراقي، والخلاف السوري الأردني.
ثم أدى فشل المفاوضات التي أجرتها قيادات إخوانية مع قادة الأجهزة الأمنية السورية في ألمانيا عامي 1984 و1987، سعياً للاعتراف بالجماعة كحزب سياسي، إلى تعميق الشرخ بين أجنحتها المتصارعة. ولم تستأنف الاتصالات إلا في عام 1995، حيث سمح لبعض القيادات بالعودة، لكن بصفتهم الشخصية، بينما طويت صفحة الحديث معهم كحركة سياسية في سوريا.
ورغم وفاة الرئيس حافظ الأسد وانتقال السلطة إلى نجله بشار، فإن الأخير اتبع ذات النهج الذي سار عليه والده في التعامل مع هذا الملف، حيث أغلقه تماماً أمام النقاش، وقام بإدارته من زاوية أمنية فقط. وبذلك بقي "الإخوان" قيادة في الخارج غير ذات تأثير في الداخل.
لكن بالمقابل، يلاحظ المؤلف أن الدين أصبح في الأعوام الأخيرة جزءاً من استراتيجية "البعث"، في تساوق مع عودة المظاهر الدينية إلى المجتمع السوري، وإن لم يعن ذلك بالضرورة تعبيراً عن الإسلام السياسي.
أما خيارات المستقبل في العلاقة بين الدولة السورية وحركات الإسلام السياسي ممثلة في "الإخوان"، فهي رهن التحولات المحلية والإقليمية والعالمية المتسارعة، وإن لم يوضح المؤلف، هنا، نوع التأثير المتوقع مستقبلاً لتلك الحركات.
محمد ولد المنى
-----------
الكتاب: الإسلام السياسي في سوريا
المؤلف: رضوان زيادة
الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
تاريخ النشر: 2008