التجديد في الإسلام... المعنى والمسارات
ينحدر التجديد لغة من الجديد وهو ما لا عهد لنا به، لأنه خلاف القديم الذي نعرفه. أما اصطلاحاً فإنه أمر مرتبط بالاجتهاد والتحديث والإبداع، يقوم على مزاولة نشاط ذهني ونفسي وميداني خلاق، من أجل التصدي للأمور العظيمة والمهمة من النوازل والحوادث. وقد ولد هذا الاصطلاح من رحم الفقه والفكر الإسلامي، حتى بات مقروناً بهما.
لكن درجة التجديد ومستواه تفاوتت من مفكر إلى آخر، ومن فقيه إلى نظيره، وتدرجت حسب تصور كل من هؤلاء عن مدى التجديد وجدواه. فهناك من شدد على أن التجديد يكون في المسلمين لا في الإسلام، وهناك من ضيق في المفهوم والقائمين عليه وحصرهم في رموز إسلامية خالصة. وعلى العكس هناك من تحدث عن "تجديد الإسلام" وتوسع في ذكر من جددوه، حتى ضم إليهم بعض من يعتبرهم السلفيون مجدِّفين بالدين أو حتى أعداءً للإسلام.
وفي كتابه "التجديد في المسلمين لا في الإسلام" يطرح عمر فروخ تصوراً محافظاً إلى درجة أنه يبدأ بالقول إن "الجيد من كل شيء هو القديم الذي يظل على الدهر جديداً"، ثم يؤكد أن التغير يطرأ على فروع الأحكام ولا يمتد إلى أصولها، وأن عمل المصلحين يقتصر على تقريب تعاليم الدين من أذهان الناس، على طبقاتهم، لا أن يجعل من الدين نفسه حقل اختبار، كأنه بذلك ينشر على الناس في كل يوم ديناً جديداً. وهذا يعني أن التجديد ينصب على المعاملات والصلات الاجتماعية بين البشر التي تتغير بتغير الزمان والمكان. أما العبادات فإن الدين نفسه قد جعل لها نطاقاً من الرُّخص التي يلجأ إليها المؤمن بحسب الأحوال التي نص عليها الدين نفسه. أما العقائد فهي الأسس التي تجعل من كل دين مختلفاً عن الدين الآخر من حيث أصوله، وانطباقه على الحياة.
ويعزز الباحث التونسي نور الدين الخادمي هذه الرؤية بقوله: "تجديد الدين معناه تقديم الإسلام كما أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم أيام نزول الرسالة. ومن مقتضيات هذا التجديد إرجاع الفهم والتطبيق الإسلاميين إلى الأصول والمصادر الشرعية المعتبرة، ونفي ما علق بالدين من زوائد وإخلال وبدع وحيل وأساطير وغير ذلك. ولا ينبغي أن يفهم من تجديد الدين استبدال الإسلام بدين آخر، أو تغيير بعض الأحكام القطعية الثابتة، أو إحداث أمور، في الفهم أو التطبيق، مخالفة للدين وقواعده ومقاصده... وبذلك يبقى التجديد هو نفي ما ليس من الإسلام في شيء، والرد إلى الله والرسول عند الفهم والاستنباط، وعند الاختلاف والتنازع، والاستجابة لمستلزمات المسايرة والمعاصرة بإرادة قوية، وعلم نافع، واجتهاد أصيل... ومن هنا يتحدد التجديد حسب المحتوى والمضمون، فإن كان المراد به الإحياء والتفعيل والإعمال والدفع فلا بأس، أما إذا كان يراد بالتجديد لدى البعض التغيير والتبديل والتبطيل، فمن المحتمل أن يصرف هذا إلى دعوى تبديل الأصول والقواطع وتعطيل الثوابت والروابط، وتبطيل الإسلام جملة وتفصيلاً تحت هذه التعلَّة والدعوى".
وهناك من يحرك هذا التصور خطوة قليلة إلى الأمام فينتقد من أساءوا فهم التجديد على أنه مجرد إظهار أضابير الكتب والمخطوطات الإسلامية، التي أخرجتها عقول الفقهاء والمفكرين الإسلاميين في الزمن القديم، من دون أي محاولة للاستفادة منها في أحوال معاشنا الراهن، بصورة أو بأخرى، وكأنهم يكتفون بأن يكون إحياء التراث هو عامل استنفار انفعالي فحسب يحفزنا إلى العمل، كالأغاني القومية وموسيقى المناسبات.
ثم يدفع أمين الخولي المفهوم خطوات أوسع بحديثه عن أسس التطور في الإسلام، منطلقاً من أن الرسالة المحمدية الخاتمة بما هي دين ونظام اجتماعي عملي تحمل أسساً للتطور تهيئه لذلك، وتعده لتحقيقه في يُسر، ودون مصادمة لشيء من تطور الدنيا حوله نظرياً وعملياً، ليحدد هذه الأسس في:
1 ـ امتداد دعوة الإسلام وحياته رأسياً في الأزمنة، وأفقياً في الأمكنة، لتستهدف شعوباً وقبائل وأجيالاً متعاقبة، وأصحاب ثقافات متنوعة، وأجناساً شتى.
2 ـ اقتصاد دعوة الإسلام في الغيبيات وإجماله لها وتحديده للإيمان بها، ونهيه عن التفكير في دقائقها. وهذا جعل العقيدة الإسلامية تصرف ما توفر لها من طاقة كبيرة إلى التفكير الحر الملائم في كل جديد من خفايا الكون، تعرفه الحياة، ويقدره العلم على مدى الأيام، دون أن تحتاج إلى تفاصيل أو بيانات جزئية، لم تعد تناسب الحياة.
3 ـ بعد تيسيره الحياة الاعتقادية، اقتصر الإسلام في شؤون العبادات على الأمور الكلية والأصول العامة الشاملة، ليفتح الباب أمام اجتهادات حول الصلاة والزكاة والصيام والحج، يتغير بعضها بتغير الأحوال، وهي مسألة ظاهرة في تاريخ الفقه الإسلامي ومحتواه.
4 ـ عدم تبسُّط الإسلام في نصه المؤسس (القرآن الكريم) في تفاصيل حول نشأة الكون والحياة والإنسان وعمر وجوده على الأرض، ومساره ومصيره، وذات الله وصفاته. وهذا لم يجعل الإسلام في مواجهة أبداً مع الاكتشافات العلمية للكون، كما حدث مع أديان أخرى. لكن المسلمين شغلوا أنفسهم بهذه القضايا وبحثوا عما يجيب عن أسئلتهم حولها في الإسرائيليات. ونحتاج في الوقت الحالي إلى التخلص من هذه الدخائل الأجنبية، التي تسربت إلى أحاديث منسوبة إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من مرويات الآحاد، وإلى بعض تفاسير القرآن.
5 ـ عدم التورط في شيء من التفاصيل حول تاريخ الأمم والرسل، التي عرض القرآن أحوالها جملة أو مع بعض التفصيل، بياناً لسنن الاجتماع في حياة الرسل. ومن هنا لا يخشى الإسلام من الرواية المادية للتاريخ التي يقصها علينا العلم عبر علم الحفريات والآثار، بل يستطيع أن يطور عرضه لتدينه مع هذا العلم المتقدم.
6 ـ جعل الإسلام الاجتهاد أساساً للحياة، بما يفي بحاجاتها المتغيرة والمتقدمة. ومن هنا أقر الفقهاء أن الحياة لا تخلو من مجتهد، وطلبوا بأن يتوفر للناس في كل عصر من المجتهدين عدد التواتر.
وهذه الأسس الستة جعلت الخولي يدخل بجرأة إلى الحديث عن تطوير العقائد والعبادات والمعاملات، قاصداً بهذا التطوير طبيعة الخلافات التي نشأت طيلة التاريخ الإسلامي حول هذه الأعمدة الثلاثة. فالخلاف حول العقائد امتد إلى ذات الله وصفاته، وطبيعة القرآن، مخلوق أم لا، وتنازع أهل السنة والمعتزلة حول السببية وأفعال العباد. أما العبادات فإن هناك اختلاف المذاهب الفقهية العملية لا يخفى على المتابعين والتابعين، وهناك اجتهادات لا تنتهي حول أركان الإسلام العملية الأربعة، الصلاة والزكاة والصيام والحج، بما يلائم احتياجات الواقع المتطور بلا هوادة. والأمر في المعاملات أهون وأيسر، وتطور العرض فيها واضح عياناً بياناً.
وينتهي الخولي من هذا إلى القول إن: "التجديد الديني هو تطور، والتطور الديني هو نهاية الاجتهاد الحقيقي"، لكنه لا يعني بالتطور مفارقة أصل الدين، وإيجاد دين جديد، بل يربط التجديد بالعودة إلى الأصل، لأن كل ما دخل على العقائد من جدل، لا ينتهي إلا إذا نحيناه جانباً، ورجعنا لإيمان الفطرة، وتجنبنا الخوض في مسائل الغيب، التي لا يمكن لعقل أن يبلغها، ولا طائل من الاحتراب حولها. أما العبادات فأحكامها وتفاصيلها عرضة لتطور دائم، ويتسع النطاق على المعاملات، وهذا من صميم الإسلام. لكن الخولي في رؤيته هذه يفكك الكثير من التركيبات التراثية المغلقة، بفعل جمود الفقه، ويشكك في العديد من المسلَّمات التي ركدت في أذهان المسلمين جراء غلق باب الاجتهاد، أو تضييقه حتى صار مجرد ثقب إبرة.