لواء العمارة بين ميلادين
لم تكن أراضي لواء العمارة قبل نهاية القرن الثامن الهجري، أراضي زراعية إلا على نطاق محصور في قسمها الشمالي على يمين نهر دجلة، ابتداءً من الكوت إلى صدر نهر "المدلول" النابع من يمين دجلة نفسه. وحين أخذت العشائر تنزح من مواطنها القديمة، لاسيما في الصحراء، لتستقر تدريجياً في هذا اللواء، بدأت تستخدم مياه الفيضانات على جانبي دجلة، وكان لواء العمارة وما يزال من أخصب ألوية العراق تربة للزراعة صيفاً وشتاءً. الوجود البشري الذي تكثف في ارتباط بازدهار الزراعة في هذا الإقليم، هو ما تجلى في حياة العشائر التي استوطنته، وفي طريقة عيشها ونمط علاقاتها وتفاعلاتها، حيث صنعت خصائص حياته وفصول تاريخه المتلاحقة... إنها علاقة الإنسان بالمكان كما يؤرخ لها كتاب "تاريخ العمارة وعشائرها"، لمؤلفه عبد الكريم الندواني، والذي نعرض هنا بإيجاز لأهم ما جاء فيه. يتألف الكتاب من ثمانية فصول تتناول تشكيلات لواء العمارة، وتقاليد عشائره، والأراضي التي تحمل أسماء هذه العشائر، ولهجاتها وبعض آدابها، وأهم العشائر التي ما تزال تمارس حياة الظعن (الرحالة)، والمتصرفين العراقيين في العمارة خلال العهد الملكي، ثم في العهد الجمهوري... وأخيراً يقدم الكتاب سرداً وافياً بأسماء عشائر العمارة وأنسابها. إنها موضوعات قلّ أن تتعرض لها المصادر التاريخية المطبوعة، باستثناء خلاصات ضئيلة لا تفي بالغرض، لذلك قام المؤلف بجهود متواصلة خلال أربعين عاماً جاب خلالها لواء العمارة بجهاته الأربع، مستمعاً إلى الرواة من كبار السن وحفظة الأخبار والسير والأنساب والحوادث، ليؤلف كتاباً تنتمي مادته في معظمها إلى التاريخ الحي أي التاريخ الذي مايزال رواته على قيد الحياة، يسردون من ذاكرتهم الحية أخبار أحداث ووقائع ومراحل عايشوها أو نقلوا عمن عايشها.
يقع لواء العمارة في جنوب العراق، ويحده شمالا لواء الكوت وقسم من الحدود الإيرانية، وغرباً لواء المنتفق وقسم من حدود لواء الكوت، وشرقاً الحدود الإيرانية، وجنوباً لواء البصرة. وهو يتشكل إدارياً من مركزه العام ومحله بلدة العمارة نفسها، إضافة إلى ثلاثة أقضية هي: قضاء مركز علي الغربي، وقضاء الميمونة، وقضاء قلعة صالح. أما مساحته فتبلغ بنحو 18400 كيلومتر مربع، فيما قدر عدد سكانه في عام 1947 بحوالي 330 ألف نسمة.
لكن لماذا سميت العمارة عمارة؟ اختلفت المصادر التاريخية في أصل هذه التسمية، وإن كان الثابت (حسب المؤلف) أنها ترجع إلى ما بعد استيلاء العثمانيين على العراق ببضعة أعوام، حيث اجتمع خليط من العشائر وسكن بهذا المحل ليطلق عليه في اللغة الدارجة حينذاك اسم العمارة. منذ ذلك الوقت، ومروراً بالصراع الذي خاضته عشيرة "آل بومحمد" للتحرر من مشيخة "بني لام" في أواسط القرن الثالث الهجري، وحتى انتهاء الوجود العثماني في العراق، كانت العمارة مسرحاً لصراعات وفتن كثيرة لم تتوقف تقريباً في حكم أي من الولاة الأتراك على بغداد.
ويرى المؤلف أن أحد أكثر الأحداث التي أثرت على لواء العمارة، هو هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى حيث أصبح العراق عملياً تحت الانتداب البريطاني. فإثر ذلك وضع البريطانيون نظاماً عشائرياً سموه "قانون العشائر"، والذي جعل أبناء الشعب قسمين: أهلياً وعشائرياً، لكل منهما نظام قضائي خاص في الدعاوى والترافع وتسوية النزاعات.
ومن التقاليد العشائرية الكثيرة في لواء العمارة، والتي يؤرخ لها المؤلف، طرقهم في معالجة جرائم القتل ودفع الديات؛ فالفرد إذا قتل أحد أفراد بيته يتكفل هو نفسه بدفع دية القتيل، وإذا قتل رجلاً من فخذه، يتكلف هو وأفراد أسرته فقط بدفع الدية، أما إذا قتل رجلاً من عشيرة أخرى فتتكلف عشيرة القاتل بدفع الدية، على أن يتحمل هو وأفراد أسرته وفخذه حصة أكبر من حصص الآخرين. ويطلقون على القاتل اسم "الفجار" لأنه فجر بركان الخلاف العشائري.
ويتعرض المؤلف لظواهر أخرى كثيرة في مجتمع العمارة العشائري، مثل اختطاف النساء بغرض الزواج وما يترتب على ذلك من نزاعات وتسويات تتضمن التعويض لذوي المرأة، و"السطرة"، وهي تجاوز شخص على آخر في المجلس وضربه باليد لا بالعصى وما يترتب على ذلك من التزام الجاني بدفع "فصل" معين للمضروب. وكذلك التسيار أو الاستجارة والذي يترتب عنه تأدية "فصل" لمن يهدد شخصاً له عليه ثأر وهو وقتها في حمى رجل آخر. أما "الصيحة" فهي ما يترتب على التحرش بامرأة حيث يلتزم الجاني بتأدية فصلين أحدهما لزوجها وثانيهما لذويها. ومن الظواهر الغريبة التي يسجلها الكتاب عن مجتمع أهل العمارة ما يلاقيه العريس لدى زفاف عروسه إليه حيث لا يغادران بيت ذويها إلا بعد أن يثخنهما أهل القرية جراحاً وذلك برشقهما بالحجارة.
ويقول الكاتب نقلاً عن من أدركوا ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها بقليل، أن الجهل والأمية كانا منتشرين في عشائر العمارة، مما أوجد سوقاً رائجة للتعاويذ والترهات وأصحاب الشعوذة. وفي هذا الخصوص يذكر الكاتب قصص كثير من المشعوذين الذين كان الناس يلجؤون إليهم بحثاً عن حلول لمشكلاتهم المادية والاجتماعية والصحية. لقد كان أهل الريف الاعماري يعتبرون أعمال المشعوذين حلاً حاسماً لجميع مشاكلهم، دون أن يعني ذلك أنهم كانوا يفتقرون إلى الذكاء الفطري وسرعة الخاطر. لكن تفكير الاعماريين تغير كثيراً في ظل انتشار التعليم والتمدرس وارتفاع مستوى الوعي وتحسن المستوى المعيشي للسكان حالياً ونوعية حياتهم على العموم، ولعل ذلك هو الميلاد الثاني للواء العمارة.
محمد ولد المنى
الكتاب: تاريخ العمارة وعشائرها
المؤلف: عبد الكريم الندواني
الناشر: الدار العربية للموسوعات
تاريخ النشر: 2008