"فتح" و"حماس" عُملة فلسطينية بوجهين مختلفين في النشأة والعقيدة والفعالية الإقليمية والدولية، فقد كانت نشأة "فتح" خارجية في خضم التأثر بالتيار "اليساري" القومي الاشتراكي والعجز العربي أمام المحنة الفلسطينية، ففتح حركة تعبر عن القضية الفلسطينية بأيدٍ فلسطينية وخروجها الرسمي من خلال البلاغ العسكري رقم (1) في أوائل 1965 في أول عملية عسكرية شكلت تعبيراً سياسياً راديكالياً عن عدم الرضا عن الرد العربي على الاحتلال الإسرائيلي. ولم تكن "فتح" آنذاك والعالم العربي في تلك الظروف على علاقة ودية، بل كان الصدام هو العنوان بدعوى أن فتح تسوِّغ لإسرائيل مهاجمة البلدان العربية، كما كان يُعتقد بأنها وجهٌ جديد ممتد للإخوان المسلمين على أساس ميول الحركة إلى الجهاد. وكما أنها تكونت خارجياً، فإن بروزها يأتي في علاقة عكسية مع المد القومي الاشتراكي، فبعد النكسة 1967 وانحسار المد القومي العربي الاشتراكي وفشله في تحمل القضية أصبحت "فتح" أكثر بروزاً، ومن مظاهر القبول هذه المرة نزوع الأنظمة العربية الاشتراكية، ومصر بالتحديد، إلى استراتيجية المقاومة واستنزاف العدو. ولكن حتى تصبح"فتح" فاعلة، كان لا بد أن تصير على مقربة من إسرائيل، وهنا حدث الصدام بين الأردن و"فتح" فيما يُعرف بـ"أيلول الأسود"، وكشفت الفترة اللاحقة- من أيلول الأسود 1970 إلى الحرب الأهلية اللبنانية وتحالف طرف لبناني مع إسرائيل لإخراج الفلسطينيين، إلى ما سيكون لسوريا من دور حتى في انقسام الصف الفلسطيني- عن أن "فتح" فاعل كبير في الشرق الأوسط، وأهم من ذلك أنها أصبحت طرفاً فاعلًا في وجه الدول العربية وغير العربية، وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية التي كان يرأسها أحمد الشقيري من السيطرة والاحتواء العربي وأجبرت القيادات العربية على الاعتراف بذلك. ومن الحدود القريبة من إسرائيل التي أُخرجت منها لاحقاً شنت عمليات داخلية وخارجية، وأصبحت تتحرك وكأنها دولة عبر أطر العلاقات الدولية والقانون الدولي وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها وتمكنت من الحصول على اعتراف دولي عربي بالكامل وغير عربي من الدول التي فيها حضور "يساري" ونظام اشتراكي بشكل واضح. أما "حماس"، فلم تكن ولادتها خارجية، فهي امتداد للتيار الإسلامي المجتمعي والسياسي المنتشر في الأقطار العربية والإسلامية، فإذا كان انحسار المد القومي العربي قد ساعد على خروج وبروز "فتح" كمنظمة وممثلة للحق الفلسطيني وتحول الصراع العربي مع إسرائيل إلى صراع فلسطيني- إسرائيلي، لا سيما بعد معاهدة السلام المصرية، فإن انبثاق حركة "حماس" امتداد لبروز وحضور وفعالية تيار الإسلام السياسي والاجتماعي في العالم العربي والإسلامي، ففي عام 1987 تهيأت حماس للخروج السياسي بعد أن كان دورها اجتماعيا وإنسانيا وتعليميا. وقد تزامن إعلان ميلادها انطلاقة الانتفاضة الأولى1987 -1994، أي بعد أكثر من عشرين عاما على نشأة فتح، وكان إعلانها من الإخوان في غزة وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، ليمتد التنظيم إلى الضفة الغربية. وفي ميثاق حركة حماس إشارة واضحة بأنها جزء من جماعة الإخوان المسلمين. وبالنظر إلى التنظيمين من حيث الفعالية على المستويين الإقليمي والدولي نجد أن فتح تحولت من الفعالية الخارجية الإقليمية والدولية إلى طرف مفاوض رئيسي أمام إسرائيل في عملية السلام، وهو طرف ذو فعالية محدودة يستند إلى دعم عربي ودولي، وذلك في مرحلة ما بعد تحرير الكويت. فبعد أن أكل احتلال الكويت الجسور العربية، بل إن القومية العربية الاشتراكية أكلت أبناءَها على مستوى الأفراد والجماعات، وأحرقت كلَّ السفن الوحدوية وراءها وليس أمامها أندلس طارق بن زياد، ورمت بكلِّ قصيدة غنيت عن الأمن العربي، وهي التي لم تكن موزونة أصلاً. وبعد الخطأ الكبير لحركة "فتح" في وقوفها مع العراق ضد الكويت وتدمير القوة العراقية، أصبحت في واقع دولي وعربي كطرف عربي وحيد في المفاوضات مع إسرائيل برعاية أطراف دولية وعربية، فبدأت أوسلو ومدريد ودخلت "فتح" غزة، وأصبحت طرفاً أساسياً في السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو الذي يعكس في صورة أخرى السلام بين العرب والإسرائيليين. ومن هذا التحول إلى الداخل الفلسطيني والوصول إلى المفاوضات برزت "حماس" عبر القوة العسكرية للمقاومة بعد تخلي فتح عن المقاومة وركوب قطار المفاوضات الذي لا تُعرف له محطة، واحتفظت "حماس" بتحولها إلى العمل العسكري بدورها في العمل الخيري والإغاثي والتعليمي، وأخذت تنفذ العمليات ضد الإسرائيليين بصور متذبذبة في فترة التسعينيات من القرن العشرين، وأصبحت أكثر حضوراً مع اندلاع الانتفاضة الثانية في 2000 ثم أصبحت لها علاقات خارجية دولية وإقليمية واضحة، وأضحت بذلك القوة الثانية على الساحة الفلسطينية بعد حركة "فتح؛. وقبل أن تصبح لـ"حماس" كما لـ"فتح" علاقات خارجية ظهر داخل "حماس" تياران، أحدهما يدعو إلى الحوار مع السلطة والمشاركة فيها، والآخر "يدعو إلى مواجهتها والعمل على إفشالها وتقويضها، وساد التيار الثاني خصوصاً بعد تفشي الفساد في "فتح" ومراوحة المفاوضات مكانها، كما أن انتشار الفكر الإسلامي ومبادئ "حماس" الذي كان واضحا في الانتخابات 2005 التشريعية، مما يشير إلى أن "حماس" واقع فلسطيني مسلم به. وبمقارنة الاختلاف السياسي والعقيدي والتحالف الدولي وغير الدولي بين "فتح" و"حماس" نجد أنه ثلاثي الأوجه، الوجه الأول العقيدة والأيديولوجيا، فـ"حماس" لا تؤمن بأي حق لليهود الذين احتلوا فلسطين عام 1947، ولكنها لا تمانع في القبول مؤقتاً وعلى سبيل الهدنة بحدود 1967، وذلك عكس "فتح" التي تتعاطى مع الوضع الدولي القانوني والعلاقات الدولية حيث تعتنق فكرة إقامة دولتين في فلسطين. والوجه الآخر هو التحالفات الدولية وغير الدولية، فالنتائج المترتبة على مفاوضات "فتح" مع إسرائيل، أعطت اعترافاً فلسطينياً بإسرائيل ومسوغاً كبيراً لاتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل رغم وجود علاقات سرية بين الطرفين، كما أن الطرف السوري الذي كان رافضاً ذهاب "فتح" إلى المفاوضات لوحدها واستخدامها أداة ما في عملية السلام مع الدول العربية الأخرى وخاصة دمشق جعل الأيديولوجية السورية تتحالف مع "حماس". كما أن إيران و"حزب الله" يمثلان تحالفاً حقيقياً مع دمشق و"حماس"، وهو تحالف بين دول وغير دول ذو رابطة عقائدية وأيديولوجية ليست بالتناسق والتكامل بقدر ما يمثله من مصالح مشتركة وبراجماتية لها أن تتصادم في المستقبل، وهو أيضاً ضد "فتح" والدول الداعمة لعملية السلام. والوجه الثالث هو الوجه المهم حيث يتعلق بالثاني، أي أثر هذا التحالف بين طهران ودمشق و"حزب الله" و"حماس" على أمن الدول العربية وعلى العلاقات الدولية، ففي أمن الدول العربية يعد بروز الأصولية الإسلامية متأثراً بهذا التحالف وخاصة في ظل فشل التنمية واضمحلال الشرعية في بعض الدول العربية، والأثر في العلاقات الدولية يأتي في تصادم حيث العلاقات الدولية علاقات مصالح وعلمانية كما أن الدول وإن كانت لها مظاهر وأبعاد دينية في علاقاتها، فإنها كخاصية وليست كأساس لعلاقاتها الدولية. وليس هناك أدنى شك في أن هذا التحالف رغم قوته هشٌّ لأن ما هو إسلامي متناقض فيما بينه، فالشيعة والسُنة في صراع وتناحر كما في لبنان والعراق، والشيعة أنفسهم في بوادر انقسام بين عرب وفرس، فأية قوة هذه التي يحملها هذا التحالف إذا أمعنا في وضع السُنة والعرب بإيران ناهيك عن الأيدي الإيرانية بالعراق التي لم تعد وراء الشيعة فقط كقوة تقوض غيرها، بل وراء فيدرالية عراقية هشة بدواعي العدالة لسكان المحافظات؟ ونسوق هنا مثال البصرة جنوبَ العراق والقريبة من إيران والمنطقة الشرقية السعودية، لنؤكد أن إيران خطر إقليمي واضح جداً، وليس بجديد القول إن "البعث" السوري مشهود له ببراجماتيته الخاصة والمتناقضة بين القومية العربية العلمانية والدور الإسلامي في المنطقة. أخيراً هل يجب على وجهي العملة الفلسطينية البحث في ملفاتهما لِيريا أين وصلا بالقضية وألا يدَّعيا أنهما يمارسان الميكافيلية، وأنهما يجيدان لعبة المصالح، وهما اللذان ربما فاتتهما القراءة المتمعنة للأبعاد الإقليمية والدولية؟ ...هو أمر في حاجة إلى وقفة أخرى متأنية.