ملح الطعام: الأهمية التاريخية والآثار الصحية
يغيب عن أذهان الكثيرين منا مدى الأهمية الفائقة التي احتلها ملح الطعام خلال مراحل التاريخ البشري المختلفة، على الصعيد الاقتصادي، والتجاري، والعسكري، والديني أحياناً. ولذا نادراً ما نتوقف، ولو للحظات، للتمعن في الجوانب المختلفة التي تحملها هذه المادة الكريستالية البيضاء في طياتها. وسبب هذه النظرة السطحية إلى الملح في العصر الحالي، هو استعاضة الإنسان خلال القرنين الماضيين بتقنيات التعليب والتبريد لحفظ الطعام لفترات طويلة، وهي الوظيفة التي كان يؤديها الملح لآلاف السنين. هذه الوظيفة، أو القدرة على حفظ الطعام، وخصوصاً اللحوم والأسماك، يؤمن البعض بأنها كانت أحد الأسس التي ساعدت على قيام الحضارات البشرية القديمة. فمن خلال حفظ الطعام، بتمليحه، تحرر الإنسان من الاعتماد الموسمي على ما هو متوفر من طعام بشكل آني. فقبل استخدام الملح، كانت حياة المجتمعات البشرية تتراوح ما بين فترات من وفرة الغذاء، وبين فترات من المجاعات نتيجة نقص الغذاء. وهو ما أعاق الإنسان عن تكوين حياة مجتمعية ثابتة، قبل اكتشافه لقدرة الملح على حفظ وتوفير الطعام، أثناء فترات نقص وشح الغذاء. هذا بالإضافة إلى أن حفظ الطعام عبر التمليح، أتاح للإنسان فرصة السفر والترحال لفترات ومسافات طويلة، وخصوصاً عبر البحار لاستكشاف أصقاع الأرض المختلفة، ومن ثم تفعيل التبادل التجاري والثقافي والحضاري بين الشعوب والأعراق المختلفة. فعلى سبيل المثال، لم يكن "كريستوفر كولومبوس" ليستطيع اكتشاف قارات العالم الجديد، ولم يكن "فاسكو دي جاما" ليقدر على الدوران حول رأس الرجاء الصالح، والوصول إلى الهند وآسيا، لو لم تكن سفنهما محملة بالأطعمة المحفوظة بالملح.
وبخلاف مساهمة الملح في تطور الحضارة البشرية، نجد أنه لعب دوراً مهماً أيضاً في التاريخ العسكري القديم. وأحد مظاهر هذا الدور، يتجلى في الممارسة العسكرية المعروفة بـ"تمليح الأرض" Salting the Earth، والتي كانت تستخدم كعقاب للأمم المهزومة، من خلال نثر الملح على أراضيها الزراعية، مما يخرب زراعتها، ويعرضها للمجاعة، ويعيقها عن مقاومة أو تحدي القوى المستعمرة أو الثورة ضدها. وعلى الصعيد العسكري أيضاً، يشير بعض المؤرخين إلى أن الجنود الرومان كانوا يتلقون رواتبهم، وهو أساس كلمة راتب في اللغة الإنجليزية salary المشتقة من كلمة الدفع بالملح Salarium في اللغة اللاتينية. وهو ما يظهر حجم القيمة المالية التي كان يتمتع بها الملح في العصور القديمة، حيث كانت تبنى المدن، وتشق الطرق، وتنشأ الموانئ لخدمة تجارة الملح، التي كانت تنتقل عبر ما يعرف بطرق الملح Salt Roads، الشبيهة بطريق الحرير الشهير.
وعلى الصعيد الطبي، يكتسي الملح، المكون من كلوريد الصوديوم، أهمية خاصة، حيث يعجز الجسم البشري عن الاستمرار في الحياة بدون الملح، وبالتحديد عنصر الصوديوم، فهذا العنصر ضروري للحفاظ على التوازن الإسموزي داخل خلايا الجسم، بحيث يؤدي نقصه، أو زيادته، إلى عواقب صحية وخيمة. ففي حالة نقص الصوديوم، الناتج مثلًا عن شرب كميات كبيرة من الماء دون تناول كميات كافية من الملح، يتعرض الجسم لاختلال داخلي خطير، يعرف بالتسمم بالماء، والذي قد يؤدي في بعض الحالات النادرة جداً إلى الوفاة. ويحدث هذا التسمم غالباً في المسابقات التي تتطلب من المشاركين شرب كميات كبيرة من الماء خلال فترة زمنية قصيرة، عشرة لترات مثلًا في خلال دقائق معدودة. أو نتيجة شرب كميات كبيرة من الماء أثناء التمارين الرياضية المجهدة، مثل سباقات الماراثون، دون تناول كميات مماثلة من الملح للحفاظ على التوازن الداخلي. وبخلاف التوازن الإسموزي، للملح فائدة طبية أخرى، تتمثل في إمكانية إضافة عنصر اليود إلىه، للوقاية من المضاعفات الناتجة عن نقص اليود، وخصوصاً بين سكان الواحات والمناطق الداخلية البعيدة عن البحر.
وتعتبر سيناريوهات نقص الملح نادرة الحدوث كما ذكرنا، وإن كان الأكثر شيوعاً هو الإفراط في تناول الملح، وخصوصاً في ظل توفر الملح حالياً بأثمان زهيدة، وبيسر وسهولة لم يعهدهما أسلافنا، وهو ما قد يؤدي إلى طائفة متنوعة من المضاعفات الصحية. وأشهر تلك المضاعفات هو ارتفاع ضغط الدم، وقد أظهرت الدراسات المتتالية خلال العقدين الماضيين وجود رابطة قوية بين هذا المرض وبين الإفراط في استهلاك ملح الطعام. وقد أجريت إحدى تلك الدراسات في عام 2007، وأظهرت أن الأشخاص الذين يتميزون بضغط دم يصل إلى الحد الأعلى من المدى الطبيعي، يمكنهم خفض احتمالات إصابتهم بأمراض القلب والشرايين بنسبة 25%، من خلال خفض استهلاكهم للملح بقدر مناسب. ويرتبط فرط استهلاك الملح أيضاً بزيادة احتمالات الإصابة بهشاشة العظام، وحرقة المعدة، وسرطانها، والقرحة والاثنى عشر، وتضخم البطين الأيسر للقلب، والأزمة الشعبية أثناء ممارسة التمارين الرياضية. أما أخطر المضاعفات الصحية الناتجة عن استهلاك كميات كبيرة من الملح فهي الوفاة، من خلال ما يعرف بالتسمم بالملح. وهذا التسمم ينتج غالباً عن طريق الخطأ، كخطأ الأم عند تحضير طعام طفلها، وخلطها بين الملح والسكر، ثم إرغام الطفل على تناول الطعام المالح على رغم رفضه. ويحدث هذا التسمم أيضاً، عند استخدام كميات كبيرة من الملح المذاب في كمية صغيرة من الماء لإحداث القيْء، بعد ابتلاع مواد كيميائية أو مواد سامة. وهذه الطريقة كان أثرياء وأغنياء الصين في الأزمنة الغابرة، يستخدمونها كوسيلة للانتحار، عندما كان الأثرياء والأغنياء فقط هم وحدهم القادرون على دفع ثمن كمية من الملح كافية للانتحار!
د. أكمل عبدالحكيم