الشرق الأوسط.. والتوازن المتداخل
الانطباع العام السائد الآن هو أن التوازن الاستراتيجي والسياسي في الشرق الأوسط سيبقى إلى ما بعد استقرار الإدارة الأميركية الجديدة. وهذا التوازن الذي نتحدث عنه يدور أساساً بين إيران والقوى العربية المرتبطة بها من ناحية والتحالف العضوي الأميركي- الإسرائيلي مسنوداً بقوى عربية من ناحية أخرى. ومن الواضح أن التحالف الأخير تراجع استراتيجياً، وسجلت إيران وسوريا و"حزب الله" انتصارات سياسية واستراتيجية مهمة مالت بالتوازن لصالحها خلال عام 2008.
والحال أن التوازن الاستراتيجي اكتسب قدراً ملحوظاً من التعقيد خلال عام 2008. كان معقداً منذ البداية لأن المشروع الإمبراطوري الأميركي في العراق جعله مستعمرة إيديولوجية وإدارية لإيران، وعسكرية فقط لأميركا. وبات هذا الارتباط بالغ الأهمية بالنسبة لسمعة أميركا ومكانتها الدولية. فبدون أن تمنح إيران فعلياً هذا الوضع المهيمن تفقد العراق سياسياً كما فقدته ثقافياً وأخلاقياً. هذا الارتباط المصلحي العجيب اهتز بشدة بسبب اجتياح التيار المتشدد للسياسة والسلطة في إيران خلال الولاية الثانية لجورج بوش الابن، وبالتالي بروز الملف النووي الذي لا يمكن لإسرائيل وبالتالي لأميركا احتماله.
جانب آخر من التداخل سجلته أحداث 2008 عندما بدأت المفاوضات السورية- الإسرائيلية برعاية تركيا. فقد صار الأمل في شد سوريا بعيداً عن التحالف مع إيران جزءاً مهماً من الاستراتيجية الغربية. وتلعب سوريا هذه الورقة ببراعة دون أن تخاطر بتحالفها مع إيران ولا علاقاتها بروسيا، بل ذهبت لتعميق علاقتها الاستراتيجية بهما في وقت لم تحظ فيه بعد بمصالحة حقيقية مع أميركا.
وبسبب هذا التداخل المعقد ليس من المحتم أن يحدث انقطاع مفاجئ أو نهاية حاسمة للتوازن الراهن لا قبل ولا بعد الانتخابات الأميركية. ونموذج ضرب مصر عام 1967 من جانب أميركا وإسرائيل لانهاء الصراع في المنطقة لصالحها قد لا يتكرر بالضرورة. وقد اكتشفت أميركا بعد ذلك أن ضرب ناصر ومصر لم يحل بالضرورة مشاكلهما في الشرق الأوسط على رغم انزياح عقبة كأداء في وجه هيمنتهما على المنطقة. ولسبب ما قد يكون ميتافيزيقياً أو محمولًا بالمياه التحتية للتاريخ الطويل للمنطقة وعلاقاتها المضطربة بالغرب، أو لدور إسرائيل تحديداً، تبدلت ولم تنتهِ توازناتها الاستقطابية على رغم تغير الفاعلين والأدوار جزئياً على الأقل منذ استقلال المنطقة.
ولكن الإجابة الثانية لا تبدو مستبعدة أبداً. ونعني أنه لا يزال من المحتمل أن يتم ضرب إيران حتى قبل أن تغادر إدارة جورج بوش الابن غير مأسوف عليها من أحد. وثمة دافعان قويان لإقدام بوش على الأخذ بهذا السيناريو. أولهما هو تتويج المشروعية الاستعمارية العدوانية لجورج بوش التي تركزت على تغيير المنطقة والاستيلاء عليها بالقوة وخاصة أن هذه الإدارة لم تحقق الكثير من أهدافها الكبيرة وبصفة أخص الفوز فيما تسميه الحرب على الإرهاب.
شملت هذه "المشروعية" إلحاق الهزيمة بالانتفاضة الفلسطينية ودعم إسرائيل دعماً غير محدود في سياساتها الإجرامية لتوظيف كل صور العنف خارج إطار القانون الدولي لإنجاز هذا الهدف. وشكل إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق أهم حلقات هذا المشروع. وكان المفترض أن يستكمل بسحق "حزب الله" عام 2006. أما الحلقة الأقل أهمية فهي خنق غزة وإسقاط سلطة "حماس" فيها. ولا تزال هذه الأهداف جميعاً معلقة في الهواء.
أما الحلقة الحاسمة فهي بدون شك قصم ظهر القوى الراديكالية المعادية للتحالف الأميركي- الإسرائيلي من خلال ضرب إيران واستهداف النظام الحاكم فيها بالإسقاط.
أما الدافع الثاني فهو حسم الانتخابات الأميركية بصورة قوية لصالح الحزب الجمهوري. ومن المحتمل بالطبع أن يتعزز التفوق الحديث لجون ماكين في استطلاعات الرأي العام فلا يحتاج اليمين الأميركي لشن حرب كبيرة في الشرق الأوسط. ولكن إن عاد الرأي العام الأميركي لمنح ميزة لأوباما في غضون الشهر الباقي على الانتخابات الرئاسية فقد يكون شن هذه الحرب أمراً مغرياً إلى حد بعيد. فالنظرية التقليدية التي تحرك التوازنات السياسية والانتخابية على المدى القصير هي أن الأمة الأميركية ستلتف حول العلَم في أوقات الحرب، وستعطي للمتشددين ميزة ساحقة وكبيرة.
ولكن هذه الإجابة قد لا تكون مرجحة لأسباب أخرى. فأولاً لم يعد شن الحروب يعمل بهذه الطريقة التقليدية. وفي أوقات الأزمات الاقتصادية مثل الأزمة الحالية قد يعني شن حرب بهدف كسب الانتخابات خسارة أكيدة لها. والتقديرات في أميركا تقول إن البلاد ستدخل حتماً أزمة اقتصادية كبيرة تجر الاقتصاد العالمي كله إلى انكماش مماثل على الأقل لأزمة الثلاثينيات. ويبدو أن الاقتصاد الغربي كله بدأ يغوص في الوحل كما تظهر الأرقام في حالة بريطانيا وأميركا وغرب أوروبا، وهو أمر يعمل ضد الحرب على إيران ودفع سوق النفط لاضطراب كبير.
ولكن، إلى متى تتأجل الضربة؟ من الواضح أنه حتى جورج بوش الذي لم يهتم كثيراً بإقناع العالم ولا حتى أقرب حلفائه بشن الحرب على العراق لم يعد يقوى على شن حرب جديدة ضد إيران بدون القيام بمشاورات واسعة مع فرقاء السياسة الأميركية. وفي غضون شهر واحد يصعب للغاية أن يبرم سيناريو لتقديم مبرر لهذه الحرب ويخرجه في التنفيذ أيضاً. ومع ذلك فلا يمكن استبعاد هذا السيناريو وخاصة بعد إعلان صفقة الألف صاروخ المضاد للتحصينات النووية التي وافق الكونجرس مبدئياً على منحها لإسرائيل قبل يومين.
ويبقى أيضاً أن نقيس حالة السياسة الإسرائيلية ومدى استعدادها للمخاطرة المفاجئة بخوض حرب ضد إيران في غضون شهر من الآن سواء بعملية مشتركة مع أميركا، أو بعملية أحادية من جانب إسرائيل تتمتع بغطاء أميركي كامل على النحو الذي حدث في لبنان عام 2007. وسيكون لإسرائيل زعيم جديد لـ"كاديما" وبالتالي رئيس وزراء جديد في أقل من شهر. ولكن السؤال هو عن مدى تأهيل الرأي العام الإسرائيلي لحرب لاشك أنه سيعاني منها مهما كانت نتائجها النهائية. وهذا بدوره مشكوك فيه، ولكنه لم يعطل بالضرورة مشروعات عسكرية أو استراتيجية سابقة دون تأهيل كافٍ للرأي العام.
فإن لم يأخذ جورج بوش فرصته الأخيرة لدخول التاريخ الأميركي باعتباره أيضاً الرجل الذي دمر إيران فستمنح إيران هدنة مؤقتة أو طويلة في ظل إدارة جديدة. ومن المرجح للغاية أن تكون هذه المهلة طويلة إن تم انتخاب أوباما. فالرجل أياً كانت محاولاته المستميتة لحيازة قبول المؤسسة العسكرية والاقتراب من اليمين لن يستطيع خيانة شعاره الرئيسي وهو تجديد الداخل ألأميركي بالامتناع عن شن حروب مكلفة جديدة قد تسبب ضرراً اقتصادياً كبيراً لاقتصاد بلاده. أما ماكين فهو سيحتاج لفترة لن تقل عن ستة أشهر لبناء إدارته وكسب التأييد اللازم لحرب جديدة في الشرق الأوسط، الذي أثبت دائماً أنه منطقة مخيبة للآمال.
بل وقد لا يفعلها ماكين أبداً لأنه سيركز على استكمال المشروع الأميركي في العراق. وقد لا تغريه حروب جديدة قبل أن يعلن يأسه من كسب المعركة الاستراتيجية ضد إيران بالنقاط ومن خلال العراق أيضاً بالمقارنة بتوجيه ضربة قاصمة لهذا الخصم الذي يكن له كراهية شخصية وأيديولوجية وسياسية لاشك فيها.
والفوز بالنقاط ضد إيران يعني التركيز على عزلها سياسياً وربما حصارها اقتصادياً وتقليم أظافرها سياسياً والاستمرار في معاقبتها دبلوماسياً.
وقد لا يكون الفوز بالنقاط ممكناً. وأمامه أربع سنوات لتجربة هذا السيناريو. ولكنه قد يكون أفضل من المغامرة في وقت قد تغوص فيه أميركا أكثر في وحل اقتصادي واستقطاب سياسي يكاد يقسم المجتمع الأميركي إلى مجتمعَين متناقضين.