في خطوة تاريخية على صعيد الجهود الدولية الرامية لمكافحة الحمى الشوكية، قرر وزراء 25 دولة أفريقية، خلال اجتماع موسع عقد الأسبوع الماضي في الكاميرون، البدء في تفعيل مجموعة من الإجراءات ترمي إلى التخفيف من فداحة الثمن الإنساني لهذا المرض الشرس. وتقع جميع هذه الدول ضمن ما يعرف بحزام الحمى الشوكية (Meningitis Belt) الذي يمتد من إثيوبيا في الشرق إلى السنغال وموريتانيا في الغرب، ويعيش تحت نطاقه أكثر من 430 مليون شخص. ولبيان مدى وقع مرض الحمى الشوكية على تلك الدول، يكفي أن نعلم أن آخر وباء من المرض تسبب في إصابة 250 ألف شخص، لقي 25 ألفاً منهم حتفهم، وإن كان هذا لا يعني أن الحمى الشوكية تنتشر فقط في الدول الأفريقية الواقعة ضمن نطاق هذا الحزام، حيث تقع أوبئتها في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك بعض الدول العربية مثل مصر والسعودية والمغرب. وحتى في الدول التي تتمتع بمستوى عالٍ من الرعاية الصحية، مثل دولة الإمارات العربية، تظهر على أراضيها وبين سكانها بؤر من الحمى الشوكية بين الحين والآخر. وآخر تلك البؤر التي يمكن أن نسترجعها من الذاكرة الحديثة، ظهرت بداية العام الماضي في إحدى حضانات الأطفال بمنطقة ديرة في دبي. وربما كانت سرعة وحجم استجابة وزارة الصحة لهذه البؤرة الصغيرة المكونة من أربع حالات فقط هي أفضل دليل على مدى الجدية التي يفترض أن تتعامل بها السلطات الصحية مع حالات الحمى الشوكية. حيث تم على الفور حجز وعلاج الأطفال المصابين في مستشفى البراحة، ثم قامت الوزارة وبالتعاون مع شرطة دبي، بتطعيم 220 شخصاً، من بينهم 54 طفلاً أقل من سن 7 سنوات، يمثلون إجمالي سكان البناية الكائنة بها الحضانة. وهذا التحرك السريع والحازم من قبل الوزارة جاء نتيجة إدراك المسؤولين مدى خطورة الموقف وفداحة تداعياته، إذا ما انتشر الميكروب خارج نطاق البؤرة الأولية. وهو نفس الحذر والقلق اللذين يتعامل بهما أفراد المجتمع الطبي مع الحمى الشوكية، حيث تنص المراجع الطبية على قانون واحد عندما يتعلق الأمر بالحمى الشوكية، مفاده أنه إذا ما ساورت الطبيب الشكوك في إصابة المريض بالحمى الشوكية فعليه البدء في العلاج فوراً، ودون انتظار نتائج الفحوصات والتحاليل لتأكيد أو نفي التشخيص. أو بمعنى آخر: عالجْ الآن، ثم حللْ وأفحصْ لاحقاً. ولكن ما السبب في أن الحمى الشوكية دائماً وأبداً ما تصنف كطارئ طبي خطير؟ إجابة هذا السؤال ببساطة هي نسبة الوفيات المرتفعة من المرض، حتى وإن توفر أفضل علاج طبي على الفور. حيث تظهر الإحصائيات الطبية أن ما بين 5% إلى 10% ممن يصابون بالحمى الشوكية يلقون حتفهم، وخلال 24 إلى 48 ساعة من إصابتهم بالمرض. وهذه النسبة تترجم في دولة مثل بريطانيا إلى مئات الوفيات سنوياً، على رغم ندرة المرض بها إلى حد كبير وتمتع سكانها بواحد من أفضل نظم الرعاية الصحية في العالم. وحتى بين من ينجون بحياتهم من المرض، يتعرض جزء كبير منهم للإعاقة الدائمة. وهذه الإعاقات التي تتراوح ما بين تلف المخ، وفقدان السمع، والضعف الدائم في الملكات الذهنية، وفي القدرة على التعلم، تصيب ما بين 10% إلى 20% من الناجين. وبحسبة بسيطة، نجد أن الوباء الأخير من الحمى الشوكية، بخلاف أنه تسبب في وفاة 25 ألف شخص، فقد ترك خلفه ما بين 25 ألفاً إلى 50 ألفاً آخرين مصابين بإعاقات عقلية أو ذهنية أو حسية. والحمى الشوكية، هي التهاب في الأغشية المغلفة للمخ والمعروفة بالسحايا. وتتعرض هذه الأغشية للالتهاب من جراء أسباب عديدة، مثل الإصابات الخارجية، وبعض العقاقير الطبية، وإن كانت العدوى بالجراثيم مثل الفيروسات والبكتيريا والفطريات هي أكثر تلك الأسباب شيوعاً. ومن بين الأسباب الجرثومية تلك، تعتبر العدوى البكتيرية هي أخطرها على الإطلاق، بسبب شدة مضاعفاتها. وتنتقل العدوى بالبكتيريا المسببة لالتهاب السحايا البكتيري، عن طريق الإفرازات والرذاذ التنفسي، من خلال العُطاس أو الكحة أو مشاركة أدوات الطعام والشراب. وغالباً ما يتم هذا الانتقال بين الأشخاص الذين يقضون فترة طويلة من يومهم في أماكن مغلقة ومزدحمة، كما هو الحال مع طلاب المدارس والجامعات، وبين المجندين العسكريين. وتتراوح فترة الحضانة، أو الفترة بين حدوث العدوى وظهور المرض ما بين يومين إلى عشرة أيام، مع متوسط أربعة أيام في الغالب. وعلى رغم أن أعراض الحمى الشوكية تتشابه في الغالب مع أعراض أمراض تنفسية أخرى مثل البرد العادي إلا أنها تتسم ببعض العلامات المميزة. حيث تظهر أعراض الحمى الشوكية في البداية على شكل حمى شديدة ومفاجئة، تتبعها قشعريرة وشعور بالبرودة، بالترافق مع بعض المظاهر العصبية مثل الدوخة والارتباك الذهني، والإصابة بصداع حاد مستمر لا تخففه المسكنات. ويعاني المرضى في المراحل الأولى من الشعور بضيق شديد من الإضاءة الساطعة، وعدم تحمل الأصوات المرتفعة، ليصابوا لاحقاً بتوترات عضلية خفيفة، تعقبها تشنجات شديدة وهذيان. وتعتبر النقطة الأكثر أهمية على الإطلاق في موضوع الحمى الشوكية، هي ضرورة التعامل مع الحالات المشتبه بها على أنها طارئ طبي خطير، يتطلب العلاج داخل مستشفى على وجه السرعة.